إضافة إلى ما ذكرته فى المقال السابق فإن من الأسباب التى تدعو إلى ضرورة التأنى فى وضع الدستور الجديد أن الأبواب من الخامس إلى السابع من دستور 1971 بحاجة إلى عملية جراحية كبرى لا يمكن إنجازها بالسرعة التى يفترضها أنصار الدستور السريع.هذه الأبواب تتضمن الكثير من القضايا الشائكة التى تثور بشأنها خلافات كبيرة لا يتصور الاستقرار على حلول توافقية لها خلال أسابيع قليلة. منها قضية النظام الجمهورى الأصلح لمصر: برلمانى أم مختلط (شبه رئاسي) أم رئاسي؟. ومنها البرلمان: بمجلس واحد أم مجلسين، وفى حالة إلغاء مجلس الشورى، هل يحل محله مجلس اقتصادى واجتماعى أم يعدل تكوين مجلس الشعب على نحو يوفر له ما يحتاجه من أصحاب الكفاءات؟ وهل يجوز التعيين فى البرلمان، أم يقتصر على من يأتون إليه بالانتخاب.
ومن هذه القضايا الأسلوب المناسب لانتخاب نواب الشعب: القوائم أم الفردى أم مزيج منهما؟ ومن يكون له حق تشكيل القوائم ومن يحق له الاشتراك فى الانتخاب بالأسلوب الفردى، وهل يحق للأحزاب الاشتراك بالقوائم وبالفردى معا؟ وهل تتشكل الجمهورية من دوائر انتخابية متعددة تقدم فى كل منها مجموعة من القوائم أم تعتبر الجمهورية بأكملها دائرة واحدة تقدم فيها كل مجموعة سياسية قائمة واحدة؟ وهل يستمر العمل بشرط تمثيل العمال والفلاحين بنسبة 50% على الأقل، أم تعدل النسبة، أم يلغى هذا الشرط؟ وفى حالة إلغاء هذا الشرط، هل يمكن النظر فى بدائل مؤسسية أخرى لضمان اشتراك العمال والفلاحين فى اتخاذ القرارات، أم يكتفى بما تسفر عنه الانتخابات من تمثيل؟ وماذا عن تمثيل النساء فى البرلمان: هل تخصص لهن حصة من المقاعد على سبيل ما يعرف بالتمييز الإيجابى، أم يشترط تضمين كل قائمة نسبة من النساء، أم يترك الأمر دون حصص أو شروط؟ وقد يثار سؤال مناظر عن تمثيل الأقباط؟
●●●
ومن القضايا الشائكة أيضا ضمان جدية العملية الانتخابية ونزاهتها؟ فهل يكفى اشتراك الناخبين بأى نسبة لقبول نتائج الانتخابات مثلما حدث مع مجلس الشورى الذى لم يشترك فى انتخابه سوى 7% من الناخبين، أم يتوجب اشتراط ألا تقل مشاركة الناخبين عن نسبة ما؟ وهل يكفى الإشراف القضائى على الانتخابات وفق الأسلوب المتبع حاليا أم يتعين إنشاء جهاز مستقل توفر له الكفاءات اللازمة والإمكانيات المالية والمادية والبشرية والأمنية الكافية ويعهد له بتنظيم كل خطوات العملية الانتخابية للبرلمان والمحليات وللنقابات والجمعيات على النحو المعمول به فى دول مثل الهند وفنزويلا ؟ وماذا عن ضمان وصول نواب لديهم التأهيل الكافى لقراءة ما يعرض على البرلمان من وثائق للخطة والموازنة ومن مشروعات قوانين ومناقشتها مناقشة جادة؟ وهل يصح فى عصر العلم وثورة المعلومات والاتصالات الاكتفاء بشرط إجادة القراءة والكتابة، أم أنه يجب الارتفاع بمستوى تأهيل المرشح فوق هذا الحد بالغ التواضع؟
●●●
ويمكن طرح سؤال مناظر عن مستوى المؤهل التعليمى لمن يترشح لرئاسة الجمهورية ؟ أضف إلى ذلك أنه من المرجح إعادة النظر فى الشروط الأخرى المتعلقة بالمرشح لمنصب الرئيس كشرط الجنسية وشرط التزكيات الواجب الحصول عليها، وهى الشروط التى ابتدعها من وضعوا التعديلات الدستورية التى استفتى الشعب عليها فى عجلة ودونما وقت كاف للاستنارة بشأنها فى 19 مارس 2011، وهو ما سوف يثير الكثير من الجدل، وذلك فضلا عن الجدل الجارى حول تلك المادة من الإعلان الدستورى التى تحصن قرارات لجنة الانتخابات الرئاسية ضد الطعن عليها أمام القضاء.
وهناك قضايا أخرى شائكة لا يتسع المجال لرصدها وطرح الخيارات المتصورة بشأنها كتحديد هوية النظام الاقتصادى وتحديد الموقف من ملكية الأجانب للأراضى الزراعية والصحراوية، وتحديد نظام الحكم المحلى وأسلوب الانتخابات المناسب للمحليات، وكيفية الإشراف على أجهزة الإعلام المملوكة للدولة، وهل يستفتى الشعب على كل مواد الدستور دفعة واحدة أم يجوز ــ يجب إفراد استفتاءات منفصلة لبعض المواد الحساسة؟ ..الخ. ولكن فى اعتقادى أن ما ذكرته يكفى لإثبات خطأ الزعم بأن إجراء التعديلات سواء فى الأبواب الأربعة الأولى أم فى الأبواب الثلاثة الأخيرة من دستور 1971 أمر يسير ولا يتطلب الكثير من الوقت. ومما هو جدير بالتأمل فى هذا الشأن أنه إذا كان الجدل حول كيفية تشكيل الجمعية المنوط بها وضع الدستور قد امتد لما يقرب من شهرين دون حسم، فهل يتصور حسم الجدل حول موضوعات الدستور التى ذكرتها وتلك التى لم أذكرها فيما تقدم فى أقل من شهرين، وذلك حسبما اقترح فى اجتماع المجلس العسكرى مع ممثلى بعض الأحزاب والمستقلين مؤخرا؟
●●●
ونأتى الآن إلى سبب ثان لضرورة التأنى فى وضع الدستور الجديد، ألا وهو أن التسرع فى إنجاز هذه العملية سوف يعنى أنه لن يمر وقت طويل حتى يتضح أن الدستور الجديد بحاجة إلى تعديلات جديدة. فالعجلة قد تؤدى إلى نصوص لا تحظى بالتوافق الكافى وإلى صياغات لا تخلو من العوار. وهذا بالضبط ما حدث مع التعديلات الدستورية التى تم الاستفتاء عليها فى العام الماضى، ومع الإعلان الدستورى الذى لم يعرض للنقاش العام، فضلا على أنه لم يعرض على الشعب فى استفتاء عام. فقد أدى بنا هذا التسرع إلى ما نلحظه من اضطراب وارتباك طوال المرحلة الانتقالية. وبديهى أن ما يؤدى إليه الاستعجال فى وضع الدستور من حاجة متكررة للتعديل بعد فترة وجيزة من إقراره تتناقض مع الخاصية المرغوب توافرها فى أى دستور محترم، ألا وهى خاصية الثبات لأمد طويل نسبيا.
وهناك سبب ثالث لضرورة أن يأخذ وضع الدستور الجديد ما يكفى من الوقت للدراسة والوصول إلى توافق عام بشأن عناصره الرئيسية، فهو أن ثمة حاجة إلى تخصيص مهلة كافية أمام الشعب للإحاطة بالخيارات الدستورية الممكنة ولتبين ما قد يكون لكل خيار من مزايا أو عيوب. وهو ما يقتضى إتاحة أوسع الفرص للحوار المجتمعى حول هذه الخيارات فى المدن والقرى وفى النقابات والجمعيات وفى أجهزة الإعلام، ومن ثم عدم قصر الأمر على حوارات الغرف المغلقة للجمعية التأسيسية والخبراء. وقد هالنى أن أسمع من بعض السياسيين ما ينطوى على الاستهانة بأمر الحوار المجتمعى اللازم حول الدستور، وذلك بدعوى أن الشعب مشغول بالخبز وأنبوبة البوتاجاز، وأنه لا يملك ترف إضاعة الوقت فى مناقشة القضايا الدستورية. ويبدو أن هؤلاء لا يدركون عمق التغيير فى الوعى السياسى الذى أحدثته ثورة يناير وما أدت إليه من عودة السياسة إلى المصريين بعد غيبة طويلة.
●●●
لكل ما تقدم من أسباب، أدعو إلى التريث فى عملية وضع الدستور وإتاحة الوقت الكافى للنقاش الشعبى حول موضوعاته الرئيسية. ولا أتصور أن ضررا كبيرا يمكن أن يقع مع انتخاب الرئيس قبل الانتهاء من وضع الدستور الجديد. فالرئيس الجديد لن يعمل فى فراغ دستورى، وإنما سيعمل وفق الإعلان الدستورى القائم. وقد يكون من الأفضل إجراء تعديلات محدودة على هذا الإعلان لتحجيم احتمالات استبداد الرئيس أو وقوع صدام بينه وبين البرلمان على النحو الحاصل الآن. ومن أمثلة هذه التعديلات أن يكون من حق الرئيس تعيين رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، وذلك بناء على ما يجريه من مشاورات مع الحزب أو التكتل الحزبى الفائز بأعلى الأصوات فى انتخابات مجلس الشعب ومع بقية الأحزاب الممثلة فى مجلس الشعب ومع القوى السياسية الأخرى. ومنها أن يكون من حق مجلس الشعب سحب الثقة من الحكومة. ومنها أيضا أنه يجوز للرئيس التقدم للمجلس باقتراحات بقوانين، ولكن لا يجوز له تخطى المجلس باقتراح قوانين واستفتاء الشعب عليها مباشرة.