لا أحد على الأرجح داخل مصر وخارجها يدرك فداحة المسئوليات الملقاة على عاتق الرئيس المصرى الجديد عبدالفتاح السيسى، أكثر من عبدالفتاح السيسى نفسه.
يريد أن يبنى اقتصادا منتجا يعيد الاعتبار إلى دور الإنتاج فى الصناعة والزراعة والتكنولوجيا لأنها الطريقة الوحيدة لتوفير فرص العمل لنحو مليون شاب مصرى ينضمون سنويا إلى سوق العمل. هذا فى حين أن الهيكلية الاقتصادية والطبقية التى ترسخت طيلة نيف و40 عاما، تستند إلى طبقة رجال أعمال جدد راكموا الثروات الطائلة من قطاع الخدمات على أنواعها إلى المضاربات العقارية والمالية. وخطورة هذه الطبقة أنها تحظى بدعم قوى العولمة النيوليبرالية وإسرائيل.
وهو يسعى إلى «شن حرب لا هوادة فيها على الفساد فى الدولة»، على حد تعبيره. لكنه سيكون مضطرا فى الوقت نفسه ألا يستعدى زهاء 6 ملايين موظف رسمى لعبوا دورا كبيرا فى توفير جزء وافر من قاعدته الشعبية والانتخابية، ويتوزعون على «إقطاعات» فى الدولة تتنازع فى ما بينها مغانم سلطة الفساد.
وسيواجه الرئيس السيسى معضلة الترابط الوثيق بين الاستقرار الأمنى والسياسى وبين النمو والتنمية الاقتصادى، خاصة فى قطاع الخدمات الذى يتأثر بشدة بأى توترات أمنية. وهذا قد يخلق اضطرابا فى الأولويات يسفر عن إعاقة كل مشاريع التطوير والنهوض. كما أنه قد يستنفر ضده، فى حال تعثر برامج النهوض، ما أسماه زبغنيو بريجنسكى «يقظة الشارع السياسى» فى العالم. وهو أمر أشار إليه الرئيس المصرى نفسه حين قال مخاطبا المصريين: «لقد برهنتم أن قدرتكم لن تتوقف عن إسقاط أنظمة مستبدة أو فاشلة».
ثم إن الرئيس السيسى يجب أن يجد حلا لمشكلة جماعة الإخوان المسلمين كمدخل لابد منه لتحقيق استقرار سياسى بعيد المدى، وللتفرغ لتصفية موجة التطرف الأصولى المنتشرة فى سيناء على نطاق واسع، سواء جاء هذا الحل بالترهيب أو الترغيب أو بالعمل على تقسيم تنظيم الجماعة بين معتدلين ومتطرفين.
وسيكون على الرئيس الجديد أن يقنع الإدارة الأمريكية بأن مشروعه، وليس مشروع الإسلام السياسى، هو القادر على مقارعة «الإرهاب الإسلامى». هذا فى وقت يبدو فيه أن واشنطن لاتزال تعتقد أن للإخوان دورا هاما فى هذا المجال على رغم إطاحتهم الطائشة لفرصة الحكم التى منحتهم إياها.
وأخيرا، سيتعيَّن على الرئيس الجديد أن يمارس لعبة توازن دقيقة وصعبة فى المجالين الدولى والإقليمى. إذ سيكون عليه مواصلة التقارب مع روسيا (والصين) من دون إثارة مخاوف الولايات المتحدة أو ريبتها. وهذا بات يبدو الآن أمرا صعبا، بعد أن أصبح الصدام واضحا فى أوكرانيا بين روسيا مصممة على إعادة بناء الاتحاد السوفييتى السابق (فى صيغة الاتحاد الأوراسى) وبين أمريكا ترفض بقوة عودة نفوذ روسيا إلى سابق عهده من خلال نسفها ترتيبات مابعد الحرب الباردة.
والأمر نفسه سينطبق على المجال الإقليمى، حيث سيكون أيضا على السيسى، فى ضوء التحالف الكبير الذى نشأ مؤخرا بينه وبين دول الخليج العربية، لعب دور الموازن للقوة الإيرانية فى المنطقة تحت شعار حماية الأمن القومى العربى، لكن من دون الوصول إلى نقطة الصدام مع دولة الخمينى وقورش كما فعل صدام حسين. ولعل موقف السيسى من الصراع فى سورية ولبنان سيكشف عما قريب عن طبيعة لعبة التوازن هذه ومداها.
وكان لافتا فى هذه الإطار أن يشدد السيسى، فى سياق حديثه عن تطوير مؤسسات الدولة المصرية، على أن «مواجهة الفساد بكل أشكاله ستكون شاملة، ولن يكون هناك ليس فقط لا تهاون مع الفاسدين بل أيضا لا رحمة مع أى من يثبت تورطه فى أى قضية فساد مهما كان حجمها».
كما كان لافتا أن يحدد السيسى الهوية المصرية كالتالى: «مصر فرعونية ميلادا وحضارة، وعربية لغة وثقافة، وإفريقية جذورا ووجودا، ومتوسطية طابعا وروحا». وهذا، كما هو واضح، تحديد يقفز فوق كل تجاذبات الهوية بين الأطراف الإسلامية والعلمانية والدينية المتنازعة على طبيعة هوية مصر. الوطنية المصرية هنا هى الأساس، ومفهوم المواطنة «سيكون هو المبدأ الحاكم، فلا فرق بين مواطن وآخر فى الحقوق والواجبات ولا فى قناعاته السياسية طالما أنها سلمية».
لا ريب أن الرئيس الجديد يمتلك نقاط قوة واضحة.
فهو يأتى إلى السلطة على صهوة موجة وطنية مصرية جامحة تتمحور حول مؤسسة الدولة المصرية (مهما كان شكلها) أملاها عاملان: الأول، تجربة الإخوان الفاشلة فى الحكم على صعد الهوية الوطنية الجامعة، والتنمية الاقتصادية، والإجماع السياسى الضرورى للغاية فى المراحل الانتقالية التأسيسية فى حياة الأمم. والثانى تعب المواطنين المصريين من ثورات متصلة خلال ثلاث سنوات اضطرب فيها حبل الأمن وتوقفت خلالها الدورة الاقتصادية.
بيد أن نقاط الضعف لا تقل أهمية عن نقاط القوة كما أشرنا أعلاه، لكن أهمها وأولها وأبرزها هو عامل الوقت الذى سيكون السيف الحاسم والحد القاطع بين النجاح والفشل فى كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ومن ثم السياسية. لا بل يمكن القول إن «فترة السماح» الداخلى (يقظة الشارع السياسى) والخارجى (أساسا العلاقة مع الولايات المتحدة) قد لا تتجاوز السنتين أو حتى سنة واحدة، كى يبان الخيط الأبيض من الأسود فى مشروع السيسى، الذى يجب أن يتضمن أيضا عاجلا أو عاجلا استئناف مسيرة المرحلة الانتقالية نحو الديمقراطية التى بدأت مع ثورة يناير قبل أن تتوقف.
مسألة الوقت هذه تتطلب فى الدرجة الأولى أن يثبت الرئيس الجديد أنه «رجل دولة» (كمحمد على باشا وجمال عبدالناصر مثلا) لا رجل رئاسة وسياسة كما كان الرئيسان السابقان مرسى ومبارك. فهذا، إضافة إلى عامل الوقت الحاسم، هو ما تحتاجه الآن مهام عملية الانقاذ الضخمة والتاريخية والصعبة فى مصر.