أحد المتطلبات الجوهرية بالعملية الديمقراطية هو حرية التعبير والقدرة على احتواء الرأى الآخر والاستماع إليه، حتى وإن بدا هذا الرأى نشازا وخارجا على الإجماع أو مستفزا. وقد فضحت حرب «طوفان الأقصى» زيف الادعاء الذى لطالما تشدق به رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، من أن بلاده «واحة الديمقراطية» فى الشرق الأوسط فى كثير من المناسبات. إلاَّ أن الممارسة العملية على الأرض سواءٌ من قبل الدولة نفسها، أم المؤسسات المستقلة، أم من قبل بعض الأفراد، أظهرت أن ما يُسمَّى: «ديمقراطية» و«حرية تعبير» مجرد شعارات إسرائيلية جوفاء ووهم كبير يجرى تسويقه للعالم الغربى، خاصة، لإيهامه بأن الدولة العبرية دولة تتبنى القيم الغربية ذاتها، ومن ثم فهى أولى برعايته ودعمه، مقارنة بالعالم العربى الذى دائما ما يُصوَّر على أنه ينفر من مثل هذه القيم ويراها نبتة غريبة لا تصلح لبيئته القاحلة.
سيُعنى المقال بسرد بعض الممارسات التى تدحض مقولة «الدولة الديمقراطية». على صعيد ممارسات الأفراد، نشط فى أعقاب نشوب الحرب بعض المثقفين الإسرائيليين ومجموعات الكتب على مواقع التواصل الاجتماعى وأصدروا قوائم بأسماء الأدباء الذين يتبنون موقفا مواليا للفلسطينيين، أو يدعمون الرواية الفلسطينية، ودعوا إلى مقاطعتهم، بحسب ما ذكرته، كارين موسكوفيتش، فى صحيفة «يسرائيل هيوم». ومن ثم، سارعت دار نشر «مودن»، تلبية لدعوة المقاطعة، إلى التخلص من كتب الأديبة، صبا طاهر، وأزالت دار نشر «أوبوس» كتب الأديبة، فيكتوريا شهاب، وتبعتهما دار النشر «أهافوت»، التى أزالت، عقب السابع من أكتوبر، مباشرة، المجموعة القصصية: «كسر الجليد»، للأديبة، هنا جرايس، التى أيدت الكفاح الفلسطينى.
وعلى صعيد المؤسسات الأكاديمية، اهتمت إداراتها، منذ اليوم الأول لاندلاع الحرب، بحسب جلال البنا، فى «يسرائيل هيوم»، بإصدار بيانات لوسائل الإعلام عن تقديم بعض الطلاب، خاصة من الفلسطينيين، إلى لجان تأديب، بسبب تعبيرهم عن معارضتهم للحرب، على مواقع التواصل الاجتماعى، ووصل الأمر، فى بعض الأحيان، إلى المطالبة بفصل بعضهم. ومن ثم، تحولت الجامعة من مؤسسة أكاديمية تربوية إلى شرطة للأفكار. وقد أظهر استطلاع رأى أجراه «المنتدى العربى للطوارئ بين نحو 800 طالب فلسطينى، أن نحو 90% يشعرون بأن الحرب أثرت عليهم نفسيا واقتصاديا، و80% بأنهم لا يشعرون بالأمان وهم بداخل الحرم الجامعى، و70% بأنهم مُلاحَقون طوال الوقت و50% يفكرون فى ترك مقاعد الدراسة بالمؤسسة الأكاديمية التى يدرسون بها. لم تقتصر ملاحقة المؤسسة الأكاديمية على الطلاب، وإنما طالت بعض الأساتذة، الذين عبَّروا عن مواقف مبدئية ضد الحرب، أو عبَّروا عن آراء أكاديمية حرة، أو ألقوا محاضرات، خارج الجامعة، يخالف محتواها الإجماع العام، أو انتموا إلى منظمات تناهض الاحتلال واستعمال القوة.
• • •
من الأمثلة الصارخة فى هذا الشأن حالة الأستاذة الجامعية الفلسطينية، نادرة شلهوب كيفوركيان، أستاذة علوم الجريمة والعمل الاجتماعى بالجامعة العبرية بالقدس، والمحاضرة فى القانون ودراسات المرأة بجامعة كاليفورنيا. لم يشفع للبروفيسور، نادرة شلهوب، أنها تحمل الجنسية الأمريكية إلى جانب جنسيتها الإسرائيلية. لم توفر لها الجنسية الأمريكية حمايةً من البطش والتنكيل والترهيب المؤسسى (أمرٌ يذكر بحالة المراسلة التليفزيونية الفلسطينية، شيرين أبو عاقلة، التى قتلها قناص إسرائيلى عمدا برصاصات فى الرأس وهى تغطى اقتحام القوات الإسرائيلية لمخيم جنين، فى 11مايو 2022م، رغم أنها تحمل الجنسية الأمريكية، أيضا). ما الجُرم الذى ارتكبته البروفيسور، نادرة، كى تعاقبها المؤسسة الأكاديمية التى تنتمى إليها، وتوقفها عن العمل؟ ما الجُرم الذى ارتكبته كى تنكل بها الشرطة، وتعتقلها من بيتها، وتضع الأصفاد فى يديها وقدميها، وتستجوبها ثلاث مرات، بعد أن رفضت المحكمة المركزية طلب الشرطة تمديد اعتقالها (لكن المحكمة أطلقت سراحها بشروط مقيدة!!)؟ لقد وصَّف محاموها هذا الإجراء توصيفا دقيقا حين قالوا إنه «اضطهاد سياسى، وتنكيل من جانب السلطات بسبب تصريحات مشروعة، ومساس خطير بحرية التعبير وبالحرية الأكاديمية».
من المثير، أن الشرطة استخدمت سلطاتها من أجل تخويف الباحثة وتكميم فمها ووجهت إليها أسئلة سياسية، لا تمت بصلة، لطبيعة عملها البحثى، حيث سُئلت، بحسب مقال لهيئة تحرير «زو هديرخ»، عما تقصده بتوصيفها للقدس الشرقية بأنها مدينة محتلة، وعن الأساس الذى استندت إليه فى هذا التوصيف، وسُئلت عن توصيفها للاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية المحتلة بأنه «استعمار استيطانى»، وسُئلت عن المصادر التى استندت إليها فى تصريحها عن عدد الأطفال الذين قتلتهم إسرائيل فى غزة منذ بداية الحرب. لم يكن الهدف من وراء اعتقالها، فرض وتطبيق القانون، وتقديم لائحة اتهام ضدها واستيفاء العدالة، كما يقول جلال البنا، فى «يسرائيل هيوم»، وإنما تعلق الأمر «باعتقالٍ استعراضى ضد حرية التعبير، وخطوة هدفها إرضاء الشارع الإسرائيلى، وتنفيذ سياسة الوزير المسئول (إيتمار بن جفير)، التى كل غايتها كراهية العرب».
كل ما فعلته البروفيسور نادرة إما أنها أجرت، بحكم وظيفتها، بحوثا جريئة فى مجال تخصصها، أو أنها عبَّرت، بحكم كونها فلسطينينة وشخصية عامة، عن رأيها فى ممارسات الاحتلال الإسرائيلى سواءٌ قبل الحرب على غزة أم بعدها، أو أنها انتمت إلى منظمات مناهضة للصهيونية ولممارسات الاحتلال مثل، منظمة «كسر الصمت»، ومنظمة «موقف»، ومركز «مسلك» للدفاع عن حرية الانتقال، و«الصندوق الإسرائيلى الجديد».
فى مجال البحوث الأكاديمية، نشرت البروفيسور نادرة، دراسة عام 2009م، تضمنت روايات لأطفال من قطاع غزة، تتراوح أعمارهم ما بين 10ـ 18 عاما عن التجارب اليومية الصعبة التى يمرون بها، التى اتضح منها أن فقدان المنزل والتحول إلى لاجئين (بسبب الاحتلال) هى التجربة الأصعب فى نظرهم. فى بداية عام 2019م ألقت البروفيسور نادرة، محاضرة فى أمستردام تحت عنوان: «تقنيات العنف فى باب العامود» (حى «باب العامود» بالقدس الشرقية)، أوضحت فيها، من خلال أصوات موثقة لمجموعة من الأطفال الفلسطينيين من القدس الشرقية، كيف أن هيئة الصناعات العسكرية الإسرائيلية تستخدم أرواح وأجساد الأطفال وسكان القدس الشرقية، كافة، فى إجراء تجارب ميدانية على الأسلحة التى تنتجها من أجل تسويقها وبيعها؛ كما ألقت محاضرة بالمعنى، نفسه، فى جامعة كولومبيا الأمريكية لاحقا، أذاعها راديو الجيش الإسرائيلى فى حينه. تعرضت البروفيسور نادرة فى أعقاب هاتين المحاضرتين إلى حملة مؤسسية ممنهجة من جانب زملائها فى معهد علم الجريمة بالجامعة العبرية، وهى حملة افتقدت الحجة والدليل العلمى لتفنيد ما خلصت إليه بحوث البروفيسور، نادرة، حيث وقَّعوا على خطاب تحريضى ضدها، ورد فيه ضمن ما ورد: «تخلط البروفيسور نادرة شلهوب كيفوركيان بين البحث العلمى والموقف السياسى، بين الأيديولوجية والعلم والحقائق. إنها تعرض مزاعم، لا أساس لها، بوصفها حقائق معملية موضوعية رغم أنها لا تستند إلى قرائن بحثية». فيما يخص التعبير عن الرأى، وقَّعت البروفيسور، نادرة شلهوب، بعد شن العدوان البرى الإسرائيلى على غزة، على عريضة تندد بالعدوان، واتهمت إسرائيل بشن حرب إبادة ضد أهالى غزة، وشككت فى الرواية الإسرائيلية الخاصة باغتصاب النساء.
وهى ممارسة طبيعية، فى أى دولة تقول إنها ديمقراطية، لحرية التعبير عن الرأى أحد الحقوق الأساسية للمواطن. إلاَّ أن رئيس الجامعة العبرية كان له رأى مختلف، فقد أرسل إليها رسالة شديدة اللهجة، طالبها فيها بتقديم استقالتها، فورا، من منصبها، جاء فيها: «قرأنا، بذهول وخيبة أمل، العريضة التى وقَّعت عليها، وفيها أن إسرائيل تقوم بإبادة شعب غزة»؛ وفى 12 مارس 2024م أعلنت الجامعة العبرية عن وقف البروفيسور، نادرة، عن التدريس. عدلت الجامعة عن قرار الوقف فى 27 مارس، ليس بسبب إدراكها لقيمة حرية التعبير، وإنما بعد أن «انتزع عميد كلية العمل الاجتماعى بالجامعة العبرية منها «اعترافا»، بالقوة، بأنه كانت هناك اعتداءات جنسية من جانب حماس فى 7 أكتوبر»، بحسب صحيفة «هاآرتس»، وبعد أن أدركت الجامعة أنه لا أساس قانونى فى لائحة الجامعة يجيز وقفها عن التدريس. لكن القضية أثارت، بحسب الصحيفة، «قضايا مبدئية لها تداعيات بعيدة المدى على صورة الجامعات والمجتمع فى إسرائيل؛ وأن الإجراءات التى اتُخذت ضدها إجراءات تسعى لتقويض قيمتين: حرية التعبير وحكم القانون».
• • •
فى إطار تكميم الأفواه، أيضا، لكن فى المجال السياسى، التوقيعات التى جمعها 86 نائبا بالكنيست الإسرائيلى (من أصل 120 نائبا) لإقالة عضو الكنيست، عوفر كاسيف، من حزب «الجبهة اليهودية العربية للتغيير» («حداش») بسبب ما نسب إليه من آراء، وبسبب أفكاره وأيديولوجيته، وبسبب توقيعه على عريضة تؤيد الدعوى التى رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية فى لاهاى بسبب الإبادة الجماعية فى غزة. فى 19 أبريل 2024م جرى التصويت فى الكنيست على إقالة كاسيف لكن 86 فقط صوتوا لصالح الإقالة ولم تتحقق الأغلبية المطلوبة لإقالته (أي: 90 صوتا كما تقضى اللائحة فى هذه الحالة). نحن، إذا، أمام محاولات دءوبة لتكميم الأفواه وإسكات أصحاب الرأى المختلف، فى كل المجالات، وهو ما يدحض الزعم السخيف بأن هذا الكيان «ديمقراطى».