نشرت مدونة «ديوان» الصادرة عن مؤسسة كارنيجى للشرق الأوسط ــ مقالا للكاتب مارك بييرينى عن التحديات التى سيواجهها الرئيس التركى «رجب طيب أردوغان» بعد فوزه بقترة رئاسية ثانية فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فمن أبرز هذه التحديات: الملف الاقتصادى، حيث من المتوقع حدوث أزمة اقتصادية ونقدية بالبلاد، والأداء الانتخابى القوى الذى حقّقه حليفه فى البرلمان «حزب الحركة القومية» الذى قد يرغب فى التأثير فى شئون السياسة الخارجية انطلاقا من ميوله المناهضة للغرب.
بداية، أقسم الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، يوم الإثنين الماضى، اليمين لولاية رئاسية جديدة من خمس سنوات، بعد ولاية أولى امتدّت نحو أربع سنوات. سوف يصبح، هذه المرة، رئيسا يتمتع بصلاحيات تنفيذية خارقة. فستتركّز معظم السلطات فى يده، وسيُلغى منصب رئيس الوزراء، وستغيب بشكلٍ كامل تقريبا الضوابط والتوازنات المعمول بها فى الديمقراطيات الليبرالية. بعبارة أخرى، ستصبح تركيا نظاما سلطويا ممأسسا.
لقد عمل أردوغان بتأنٍّ، طوال سنوات، على دفع البلاد بصورة منهجية فى هذا الاتجاه. لكن على الرغم من صلاحياته الواسعة، سوف يجد نفسه مضطرا إلى التعامل مع مسألتَين غير مرغوب فيهما. تتمثل المسألة الأبرز فى أزمة اقتصادية ونقدية تلوح فى الأفق، وقد تسبّبَ بها بنفسه إلى حد كبير بسبب السياسات النقدية لحكومته وتلك المتعلّقة بمعدّلات الفائدة، والتى أثارت قلقا شديدا فى الأسواق الغربية طوال أشهر، ولاسيما حيال استقلال المصرف المركزى. المسألة الأخرى هى الأداء الانتخابى القوى الذى حقّقه حليف أردوغان فى البرلمان، حزب الحركة القومية، الذى قد يرغب فى التأثير فى شئون السياسة الخارجية انطلاقا من ميوله المناهضة للغرب.
نتيجةً لذلك، من الصعب توقُّع طبيعة السياسة الخارجية والأمنية التى سيتمكّن أردوغان من تطبيقها. من شبه المؤكّد أنه سيكون أمام فعل توازن دقيق، يحمل تداعيات واسعة بالنسبة إلى الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبى والشرق الأوسط. ستشكّل مشاركة أردوغان فى قمة حلف شمال الأطلسى (الناتو) فى بروكسل فى 11 و12 يونيو الماضى الفرصة الأولى أمامه للكشف عن الاتجاه الذى ستسلكه السياسة الخارجية التركية.
مما لاشك فيه أن المسألة الأكثر حساسية فى السياسة الخارجية والأمنية فى الوقت الراهن تتعلق بحيازة تركيا بصورة متزامنة على منظومة دفاع صاروخى روسية من طراز إس ــ 400، مع نظم الرادار المصاحِبة لها، وعلى مائة طائرة شبح أمريكية الصنع من طراز إف ــ 35. لقد أُحيط الخبراء الأتراك علما منذ فترة طويلة بعدم التوافق بين المنظومتَين على المستوى التكنولوجى، لكن ربما لم تدرك القيادة السياسية سوى مؤخرا أن المنظومتين لا يمكن أن تعملا بصورة متزامنة من دون تعريض المزايا التقنية العالية التى تتمتع بها الطائرة الشبح للخطر، وهى الطائرة التى تستخدمها الولايات المتحدة وإسرائيل وعدد كبير من القوات الأوروبية. إذن، بصريح العبارة، سيدفع شراء صواريخ إس ــ 400، فى حال حدوثه، الولايات المتحدة والناتو إلى التساؤل: «فى أى صفٍّ تقفون؟».
***
المسألة الحسّاسة الثانية هى الحرب السورية والعملية السياسية الهادفة إلى إنهاء النزاع الدائر هناك. لقد تسبّبت سياسات أنقرة وتحركاتها العسكرية بصعوبات فى العلاقات مع التحالف المناهض للدولة الإسلامية، وأيضا مع الولايات المتحدة وروسيا والحركات الثورية على الأرض. وفى إطار هذه الصعوبات، لا تزال المسألة الكردية الأكثر حساسية إلى حد كبير. فالقوات الأمريكية والفرنسية المتمركزة شرق نهر الفرات تواصل الاعتماد على المقاتلين الأكراد السوريين المنتمين إلى وحدات حماية الشعب التى تعتبرها أنقرة فرعا من فروع حزب العمال الكردستانى الذى تصنّفه فى خانة التنظيمات الإرهابية.
على الأرض، سوف ترتدى التحركات المقبلة للقوات التركية حول منبج وفى محافظة إدلب، أهمية بارزة بالنسبة إلى علاقات أنقرة مع واشنطن وموسكو. ففى حين بذل أردوغان قصارى جهده لحشد الدعم فى أوساط الرأى العام التركى والدولى لعمليتَى درع الفرات وغصن الزيتون فى شمال سورية، من غير المؤكّد تماما أن نشر مزيد من الجنود (وبالتالى التسبّب بسقوط مزيد من الضحايا والإصابات على الأرجح) فى المنطقة الواقعة بين نهرَى الفرات ودجلة، أو فى جبال قنديل فى العراق، سيحظى بتأييد شعبى.
فى محيط تركيا الإقليمى، لا تزال التسوية الشاملة فى المسألة القبرصية وعملية التطبيع مع أرمينيا متعثرتَين بشدّة. فى حين أن من شأن قيام تركيا بخطوة لتحقيق تقدّم ولو محدود فى هاتَين المسألتين أن يقطع شوطا كبيرا نحو تحسين صورة أردوغان فى الغرب، إلا أن وجود حزب الحركة القومية فى مجلس النواب سيحول على الأرجح دون ظهور أى مبادرة على هاتَين الجبهتين.
***
أخيرا، تشكّل العلاقة متعدّدة الأوجه مع الاتحاد الأوروبى عائقا كبيرا إضافيا سيواجهه أردوغان. لا تسود أى شكوك فى أوروبا (وربما فى أنقرة أيضا)، بأن الجسور بين تركيا والاتحاد الأوروبى قد أُحرِقَت – فى الجوهر، نظرا إلى التدهور الشديد لدولة القانون فى تركيا، وعلى المستوى الشخصى أيضا، على ضوء الهجمات المتكررة التى يشنّها أردوغان على قادة الاتحاد الأوروبى منذ عام ونصف العام. فضلا عن ذلك، غالب الظن أن الكلمات الأولى التى تلفّظ بها أردوغان بعد انتخابات 24 يونيو، ومفادها أن «تركيا أعطت درسا فى الديمقراطية للعالم بأسره»، لم تُكسبه حظوةً لدى القادة الأوروبيين الذين ربما فسّروا تصريحه بأنه موجَّه جزئيا، ولو بصورة ضمنية، ضدهم.
لكن لدى تركيا والاتحاد الأوروبى العديد من الأسباب الأساسية كى يواصلا تبادل الكلام فى ما بينهما. فعلى الجبهة الاقتصادية، يعتمد الاقتصاد التركى بشدّة على الأسواق والتكنولوجيا وتدفقات الرساميل الأوروبية، والتى لا بديل عنها بكل بساطة. كذلك، من شأن انهيار الاقتصاد التركى، الذى يؤمّن قاعدة إنتاجية قوية للمصنّعين الأوروبيين بموجب الوحدة الجمركية للاتحاد الأوروبى ويشكّل سوقا واسعة لمقدّمى الخدمات، أن يمارس تأثيرا سلبيا على الشركات الأوروبية. وعلى الجبهة الأمنية، فإن وجود 1000 إلى 2000 جهادى عائد ومن الحائزين على جوازات السفر الأوروبية على الأراضى التركية، يفرض على بعض البلدان الأوروبية التعاون مع أنقرة فى شئون مكافحة الإرهاب. هذا ويشكّل «الاتفاق بين الاتحاد الأوروبى وتركيا»، الذى ساهمت تركيا بموجبه فى حماية أوروبا من تدفّق موجات أكبر من اللاجئين، سببا قويا إضافيا كى يواصل الطرفان التعاون فى ما بينهما.
من جهة أخرى، أصبحت عملية انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبى أقرب إلى الضمور سياسيا. فعلى ضوء المواقف التى اتخذتها التحالفات النمساوية والهولندية والألمانية، وموقف الرئيس الفرنسى، وكذلك الخلاصات التى توصّل إليها اجتماع مجلس الاتحاد الأوروبى فى 26 يونيو، ليس هناك ببساطة من سبيل لإنعاش العملية من جديد. وعلى الرغم من الاحتجاجات الرسمية، يمكن تلمُّس شعور بالارتياح فى أنقرة، لأن الموقف السياسى للاتحاد الأوروبى يُجنِّب الرئيس التركى شروطا سياسية قوية. بيد أن الأمور ليست بهذه البساطة، فتحديث الوحدة الجمركية والمفاوضات حول تحرير تأشيرات السفر لديهما شروطهما الخاصة. إذن، لن يكون التقاط الصور مع المسئولين الأوروبيين ورفع حالة الطوارئ فى تركيا كافِيَين كى تُصلح أنقرة ذات البين مع أوروبا.
النص الأصلى: