نشر موقع مؤسسة الفكر العربى مقالا لـ «صبحى غندور»، مدير مركز الحوار العربى بواشنطن، يتحدث فيه عن سياسات الإدارات الأمريكية المتتالية خاصة إدارة الرئيس أوباما، ويستفيض الكاتب فى طبيعة الإدارة والتنافس بين الأحزاب الأمريكية فى الانتخابات، وما يرتبه كل ذلك على العرب خاصة فى ظل انعدام وجود رؤية عربية مشتركة، مما يجعل التطورات فى المنطقة مرهونة بالأوضاع والتطورات الخارجية.يبدأ غندور مقاله قائلا إن التوقعات العربية من إدارة أوباما كانت أكبر بكثير مما هو عليه واقع الحال الأمريكى، والتغيير النسبى الذى حدث فيه من خلال انتخاب باراك أوباما رئيسا. فهناك حتما تغيير قد حصل، لكنه ليس بانقلاب ولا بثورة، بل كان حركة تصحيحية فى داخل النظام السياسى الأمريكى. فقد بدأ أوباما عهده فى مطلع العام 2009 مبشرا برؤية مثالية للسياسة الخارجية الأمريكية، فيها التأكيد على حق الشعوب بتقرير مصيرها، وفيها دعوة للتعامل بين الدول على أساس الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. كما كان فى هذه الرؤية نقد مباشر، وغير مباشر، لما كانت عليه السياسة الأمريكية فى ظل الإدارة السابقة، بخاصة لجهة الانفرادية فى القرارات الدولية المهمة، ولاستخدامها أسلوب الحروب فى معالجة الأزمات، وما رافق هذا الأسلوب أحيانا من أساليب تعذيب لمعتقلين وتعدٍ على حقوق الإنسان.
الآن، وبعد مضى ثمانية أعوام على وجود باراك أوباما فى «البيت الأبيض»، نجد أن رؤيته المثالية لأمريكا وللعالم اصطدمت بواقع أمريكى وبظروف خارجية دولية، أعاقا معا تنفيذ الكثير مما طمحت له «الرؤية الأوبامية». فالواقع الأمريكى الداخلى يقوم على قوى ضغط عديدة (اللوبى) تُمثل مصالح جهات فاعلة فى المجتمع الأمريكى، وقد عمل قسم منها على تعطيل بعض برنامج أوباما الإصلاحى الداخلى، كما حصل أيضا فى العلاقات الأمريكية / الإسرائيلية وفى عجز إدارة أوباما، عن وقف الاستيطان الإسرائيلى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.
يوضح الكاتب ذلك بأنه فى ظل حضور الضغط الإسرائيلى المؤثر داخل الولايات المتحدة، من خلال العلاقة مع أعضاء الكونجرس والهَيمنة على معظم وسائل الإعلام، تصبح السلطة التنفيذية فى أمريكا أسيرة ضغوط السلطة التشريعية و«السلطة الرابعة»، أى الإعلام. والمعضلة هنا أن الفرز لا يكون حصرا بين حزب ديمقراطى حاكم وحزب جمهورى معارض، بل يتوزع «التأثير الإسرائيلى» (كما هو أيضا فى قوى الضغط الأخرى) على الحزبين معا، فنرى عددا لا بأس به من «الديمقراطيين» يشاركون فى ممارسة الضغط على الإدارة الحاكِمة لمصلحة هذا «اللوبى» أو ذاك، علما بأن تعثر «الرؤى الأوبامية»، ليس سببه حجم تأثير «اللوبى الإسرائيلى» فقط، فهناك طبعا «مصالح أمريكية عليا» ترسمها قوى النفوذ المُهيمِنة تاريخيا على صناعة القرار، وعلى الحياة السياسية الأميركية، وهى قوى فاعلة فى المؤسسات المالية والصناعية الأمريكية الكبرى.
***
هنا ينتقل الكاتب للتوقعات العربية فيقول إنها كانت كبيرة؛ لكن هذه التوقعات بتغييرات أساسية فى السياسة الخارجية الأمريكية عموما، وفى منطقة الشرق الأوسط خصوصا، كانت أكبر من القدرة الفعلية للرئيس الأمريكى. فما حصل من تغيير أميركى، كان فى الشعارات، وفى الخطوط العامة المُعلَنة للسياسة الخارجية الأمريكية، وليس فى جوهرها أو حتى فى أساليبها المعهودة. صحيح أن إدارة أوباما لم تبدأ الحروب والأزمات المتورطة الولايات المتحدة فيها حاليا، وصحيح أيضا أن هذه الإدارة لم تبدأ أى حروب أو أزمات دولية جديدة، لكنها لم تَقم بتحولات مهمة فى مجرى الحروب والأزمات القائمة، بل نجد انسجاما كبيرا الآن مع نهج إدارات جمهورية سابقة فى مسألة الخلاف مع روسيا واحتمالاته التصعيدية الخطيرة.
إدارة بوش كانت، بلا أى شك، بمثابة كابوس على العالَم كله، وعلى العرب تحديدا، لكن لم يكن من المفروض الاستيقاظ من هذا الكابوس للوقوع فى «أحلام اليقظة» والأوهام بأن إدارة أوباما ستحمل معها الخلاص والسلام لأزمات المنطقة والعالَم.
كما أن الصراع الحقيقى الذى يحدث دائما فى الانتخابات الأمريكية يكون عادة بين معسكرات من الشركات والمصانع والمؤسسات الكبرى التى تقوم عليها الحياة السياسية الأمريكية. وقد نشأت لبنات الصراع الحاصل الآن بين «معسكرين للنفوذ» فى أمريكا مع نهاية عقد الثمانينيات، حينما انهار الاتحاد السوفييتى وسقطت معه حقبة الحرب الباردة، التى تعاملت معها كل مواقع النفوذ فى المجتمع الأمريكى وكأنها حرب مستمرة إلى أجلٍ غير محدد زمنيا.
التحول الذى حدث بعد سقوط المعسكر الشيوعى، هو أن المجتمع الأمريكى بدأ يشهد فَرزا بين مَن كانوا يستفيدون من «الحرب الباردة»، ومن «الحروب الساخنة» المتفرعة عنها فى بقاع العالَم، وبين مجموعاتٍ أخرى فى أمريكا وجدت مصلحة فى إشاعة مناخ «العَولمة» ومحاولة تثبيت الريادة الأمريكية للعالَم، عبر التحكم بالتجارة العالمية وأسواق المال وصناعة التكنولوجيا وفق نظرية العالَم هو «قرية صغيرة واحدة»!
هذا المعسكر «المالى/التجارى/التقنى»، الذى يمكن تسميته اختصارا بمعسكر «السلام»، وجد فى الحزب الديمقراطى مظلة لمفاهيمه وأجندته، بعدما كان معسكر «صناعة الحروب والنفط» قد انخرط مع الحزب الجمهورى فى حقبة ريغان (بدأت فى العام 1980) وما تلاها من عهد جورج بوش الأب، وهى فترة كما يقول غندور شهدت طيلة 12 عاما تصعيدا شاملا فى الصراع مع الاتحاد السوفييتى وحروبا ساخنة امتدت من أفغانستان إلى إيران والعراق ومنطقة الخليج، إلى الغزو الإسرائيلى للبنان، ثم إلى حرب الخليج الثانية وتداعياتها الإقليمية، حيث أثمرت هذه الحروب كلها نموا هائلا فى صناعة الأسلحة وتصديرها، وأدت إلى التحكم بالثروة النفطية وتوظيف ارتجاج أسعارها صعودا وهبوطا وتجارة.
ثم نجح معسكر «السلام» فى إيصال بيل كلينتون للرئاسة الأمريكية فى العام 1992، فكانت حقبة التسعينيات، هى حقبة «العَولمة» وانتعاش الاقتصاد الأمريكى والتجارة العالمية، بينما انخفضت فى هذه الفترة ميزانية الدفاع الأمريكى وعوائد شركات الأسلحة والنفط والصناعات الحربية.
وكما كانت فترة حكم الديمقراطيين أيام جيمى كارتر (1976ــ1980) متميزة بسعيها لتحقيق تسويات سياسية للصراع العربي/الإسرائيلى، كذلك كانت حقبة كلينتون (1992ــ2000)، بينما طغت الحروب على سمات حكم الحزب الجمهورى فى الثمانينيات، وفى العقد الأول من القرن الحالى فى فترتى حكم جورج بوش الابن.
وهنا يؤكد غندور أنها ليست مصادفة أن تكون محصلة كل المعلومات والتحقيقات، التى جرت حتى الآن بشأن أحداث 11 سبتمبر 2001، قد أكدت عدم قيام إدارة بوش بأى إجراءات لمنع حدوثها، وبأنها استفادت من هذه الأحداث لتحقيق أجندة تقوم على تغيير السياق الذى عاشته أمريكا والعالَم خلال حقبة كلينتون، ولتُحرِك من جديد كل عناصر التأزم والصراع فى قضايا عالمية عديدة، وفى صراع دولى جديد عنوانه «الحرب على الإرهاب»، وهو صراع قالت عنه إدارة بوش إنه مفتوح زمانا ومكانا!
وكانت محصلة فترتى «بوش الابن» تَعاظُم دَور المؤسسة العسكرية الأمريكية وتضخما كبيرا فى عائدات أرباح مصانع الأسلحة وشركات النفط.
***
لذلك يرى غندور أن الفترة المقبلة حبلى باستحقاقات عديدة فى المنطقة العربية وجوارها الإقليمى، وهى استحقاقات ترتبط بأزمات سوريا والعراق ومصير دولة «داعش»، فضلا طبعا عن اليمن وليبيا ولبنان وفلسطين. وهى حروب وأزمات دولية وإقليمية الآن، ولم تَعد مصائرها متوقفة على الإرادات المحلية، بل أصبحت القرارات بشأنها خاضعة لمقدار التفاهمات أو الخلافات الأمريكية – الروسية. فحجم الاستقطاب الإقليمى والدولى لأزمات المنطقة العربية، عطل ويعطل الإرادات المحلية وقرارها المستقل، مع أنه لا يجوز أصلا المساواة بين كل الأطراف المعنية بهذه الأزمات.
والمشكلة، أولا وأخيرا، كما يراها غندور هى فى المراهنات العربية على الخارج و«متغيراته»، وفى انعدام القرار العربى بوضع رؤيةٍ عربية مُشترَكة. فالمشكلة ليست بواقع حال السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط فقط، المشكلة أصلا فى استمرار المراهنات على تغييرٍ فى الخارج، بينما يبقى الجمود سمة لازمة للمنطقة العربية وسياساتها.
ويختتم غندور مقاله بأن المنطقة العربية كانت وما تزال فى حال من الصراعات والخلافات التى تمنع قيام تضامن عربى، حيث بغياب حدِه الأدنى، تصبح المنطقة فارغة من أى رؤية أو «مشروع» عربى، يقابله ما يُطرَح (ويُنفَذ) من رؤى ومشاريع إقليمية ودولية، فتكون البلاد العربية مُسيَرة فى قراراتها وسياساتها. كل ذلك يحدث و«المشروع الإسرائيلى» ما زال يراهن على تصعيد الصراعات والفتن الطائفية والمذهبية والأثنية فى الداخل العربى. فهذا وحده ما يصون «أمن إسرائيل» ومصالحها فى المنطقة، وما ينهى نهج المقاومة ضدَ احتلالها، وما يجعل «العدو» هو العربى الآخر، وما يُنسى شعوب المنطقة القضية الفلسطينية، وما يجعل بعض «الثورات» العربية الحاصلة قوة إسقاطٍ لكياناتٍ وأوطان، لا لحكوماتٍ وأنظمة فحسب.
النص الأصلى