نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيغى مقالا للكاتب توماس دى فال يعرض فيه الفشل الأوروبى فى السيطرة على الحرب بين أمينيا وأذربيجان حول إقليم ناجورنى كاراباخ واحتمالية تحول الحرب إلى كارثة إنسانية... نعرض منه ما يلى:
الحرب الجديدة المستعرة عند تخوم أوروبا تمثّل كارثة إنسانية وفشلا دوليا فادحا فى الوقت نفسه. اشتعلت وتائر العنف بين أرمينيا وأذربيجان داخل إقليم ناغورنى قره باغ المتنازع عليه وفى محيطه فى 27 سبتمبر 2020. بيد أن الدول الأوروبية تجاهد فى اتّخاذ موقف مناسب فى خضم الحرب الدائرة فى فنائها الخلفى.
بالطبع، هذا ليس نزاعا يحتكر فيه طرف واحد دون سواه المعاناة والعدالة. لكن ينبغى على الأوروبيين فتح نقاش صريح وملحّ حول بعض المسائل الأساسية.
من الصعب معرفة ما يحدث فعلا هناك بسبب فوضى الحرب ونقص المراسلين الدوليين فى الميدان. لكن يُرجّح أن 300 شخص لقوا مصرعهم خلال عشرة أيام من القتال.
مع ذلك، من المهم تسليط الضوء على المعاناة المريرة التى يعيشها المدنيون الأرمن فى إقليم ناغورنى قره باغ المتنازع عليه، الذى كان محور الصراع بين الطرفين منذ العام 1988. فهم يتعرّضون لقصف عنيف منذ أكثر من أسبوع.
أفاد مفوض حقوق الإنسان فى الإقليم بأن نصف السكان المدنيين، الذين يفوق عددهم سبعين ألف شخص، هربوا من قره باغ، لكن الطريق المؤدى إلى أرمينيا محفوف بالمخاطر. فقد قال صحافى غربى من قلب الحدث فى 7 أكتوبر: «يكاد يكون مستحيلا نقل ما تشهده ناغورنى قره باغ لأن القصف لا يهدأ أبدا».
كذلك، أفادت منظمة العفو الدولية بأن القنابل العنقودية المصنّعة فى إسرائيل، والمحظّرة بموجب القانون الدولى، أُلقيت على قره باغ. وقد أمضت منظمة HALO Trust البريطانية غير الحكومية سنوات تكنّس المنطقة من هذه الأسلحة الفتاكة التى خلّفها النزاع فى تسعينيات القرن المنصرم. وهذه القنابل تشكّل على وجه الخصوص خطرا على حياة الأطفال.
يُشار إلى أن أرمينيا أيضا قصفت بسلاح المدفعية مدنا أذربيجانية بعيدة عن الخطوط الأمامية، ما أسفر عن سقوط قتلى. فقد نقل فريق فرانس 24 طيلة الأسبوع الماضى أنباء القصف الأرمنى على مدن أذربيجانية عدة، مثل غانجا، وباردا، وتارتا، وبيلقان.
***
ما الذى يجب على الأوروبيين فعله فى هذا الصدد؟ لا شك أن وباء فيروس كورونا، والانتخابات الأمريكية، والكثير من الأحداث الأخرى ألهت وقيّدت المجهود الدبلوماسى. لا بل هذه الإلهاءات ربما تُعدّ سببا لاتخاذ أذربيجان، التى أطلقت شرارة المعارك الراهنة، قرار ترجيح كفة الوضع لصالحها بالوسائل العسكرية.
لقد ناقش البرلمان الأوروبى هذا النزاع وأدانه. لكن، وكما تبدّى فى الحالة البيلاروسية، تُعتبر مؤسسات الاتحاد الأوروبى مقيّدة بسبب مبدأ التصويت بالإجماع. لكن، فى هذه الحالة تحديدا، كانت قبرص فى مقدّمة الدول التى حثّت الاتحاد على الاستجابة.
لكن الأكيد أن الاستجابة الضعيفة غير مقبولة، ليس فقط لاعتبارات أخلاقية. بل إن الفشل فى الاستجابة بشكل مناسب إنما يقوّض ادّعاء أوروبا بأنها طرف استراتيجى فى منطقتها.
فقد يحدث هذا الضعف صدعا كبيرا فى النهج المعيارى لسياسة الشراكة الشرقية للاتحاد الأوروبى، ويلقى عبئا كبيرا على جورجيا، الجار المشترك للبلدين، والتى تعيش فيها أقليتان كبيرتان من السكان الأرمن والأذربيجانيين.
مع ذلك، أتى ردّ فعل الدول الأعضاء فى الاتحاد الأوروبى أقوى. وكان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون الأكثر جهارا، على الرغم من أنه على ما يبدو أغفل المسألة الأساسية، إذ ركّز فى الغالب على دور تركيا فى إذكاء جذوة النزاع.
قد يبدأ الأوروبيون خطواتهم من خلال إطلاق رسائل صريحة أكثر حيال النزاع فى حد ذاته، وأيضا حيال التظلمات التى يعانيها الطرفان.
***
على الرغم من اعتراف الأوروبيين بمبدأ وحدة أراضى أذربيجان ــ التى يُعتبر إقليم ناغورنى قره باغ جزءا منها ويحظى ذلك باعتراف دولى – يمكنهم التنديد بأن استخدام القوة ضد شعب يعيش فى إقليم انفصالى ليس مقبولا لا الآن ولا حين حاول الرئيس اليوغوسلافى سلوبودان ميلوشيفيتش القيام بالأمر نفسه فى كوسوفو، أو حين حاول الرئيسان الروسيان الأسبق والحالى، بوريس يلتسن وفلاديمير بوتين، على التوالى، تحقيق ذلك فى الشيشان.
يشكّل هذا النزاع، الذى يرقى إلى ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتى، حالة نموذجية يُعتبر فيها حق أرمن قره باغ فى تقرير مصيرهم ومستقبلهم مبدأً أساسيا يتعارض مع مبدأ وحدة الأراضى. ومن خلال قصف أرمن قره باغ بالصواريخ والقذائف، يقوّض الرئيس الأذربيجانى إلهام علييف ادّعاءه بأنه يحترم هؤلاء السكان الأرمن باعتبارهم مواطنين أذربيجانيين.
يجب أن يرفع الأوروبيون أيضا الصوت فى التعبير عن دعمهم لأذربيجان فى شكواها الأساسية: فى الواقع، لم تسيطر القوات الأرمينية على إقليم قره باغ وحسب لأكثر من عقدين من الزمن، بل سيطرت أيضا كليا أو جزئيا، على سبع مناطق تُعتبر مقاطعات إدارية أذربيجانية عادية، لكن لسوء حظها شكّلت منطقة عازلة استراتيجية نوعا ما.
والجدير ذكره أن هذه المناطق، التى استُعيدت أجزاء صغيرة منها فى الأيام القليلة الماضية، كانت موطن أكثر من نصف مليون شخص، كما تشكّل أكثر من 8 فى المائة من أراضى أذربيجان الرسمية.
سيطرت أرمينيا على هذه المناطق فى 1992ــ1993 بنية إعادتها فى إطار اتفاقية سلام، بيد أنها اتّخذت منذ ذلك الحين خطوات تشى بنيتها الاحتفاظ بها إلى الأبد. فأرمينها تسمّيها الأراضى «المحرّرة»، وتطلق عليها أسماء أرمنية، ويقطن فيها حوالى 17000 أرمنى.
هذا الوضع غير مقبول، ويجعل أرمينيا طرفا مشاركا فى العنف الجديد الدائر. ولا بدّ من الإشارة إلى استحالة إبرام اتفاق سلام، ما لم تتم إعادة هذه الأراضى إلى مئات آلاف الأذربيجانيين الذين كانوا يعيشون هناك.
***
ما السبيل إلى التوفيق بين هذه التظلمات المشروعة؟
من الأسباب الأساسية لفشل مجموعة مينسك التابعة لمنظمة الأمن والتعاون فى أوروبا، وهى الهيئة الدولية المكّلفة بالتفاوض للتوصل إلى حل سلمى للنزاع، هو أنها بقيت مجرّد إطار وساطة مقفل عجز عن طرح سردية سلام. وكانت وكأنها مستوحاة من الدبلوماسية الروسية فى القرن التاسع عشر، أى عبارة عن محادثات سرية بين عدد قليل من مسئولين رجال فى مناصب رفيعة (من دون مشاركة أى امرأة) فى غرف مليئة بالدخان، فى ظل غياب شبه كامل لخبراء أو ممثّلين عن المجتمع المدنى.
إذا، حالما يحل التعب على المقاتلين أو يصبح القتال صعبا للغاية مع حلول الشتاء، ستواجه الدول الأوروبية فى منظمة الأمن والتعاون فى أوروبا والاتحاد الأوروبى تحدّيا يتمثّل فى محاولة إعادة طرح صيغة مختلفة من عملية السلام من شأنها أن تلبى حاجات المواطنين.
فى العام 1992، دعت مجموعة مينسك المؤلّفة حديثا آنذاك إلى عقد مؤتمر مينسك لحلّ نزاع قره باغ. بيد أن هذا المؤتمر لم ير النور قط، لكن الحاجة إليه اليوم أكبر من أى وقت مضى. ومن الممكن أن يكون عبارةً عن منتدى يجمع دولا أوروبية، ويعبّر خلاله كل الأفرقاء عن تظلماتهم، ويجلسون معا حول طاولة التفاوض.
فى نهاية المطاف، يبدو البديل قاتما، على شكل عملية سلام من الطراز القديم بين قوى عظمى، كما فى القرن التاسع عشر، تفرضه روسيا وتركيا على أرمينيا وأذربيجان، مع مراعاة ضئيلة لمبادئ حقوق الإنسان وحاجات كلٍّ من الدولتين.
النص الأصلى: هنا