على عكس ما يعتبره الكثيرون فى العالم العربى نصرا للعرب والمسلمين أن تقوم إيران بضرب إسرائيل منذ عدة أيام بالمسيرات، يبدو أن الأمر غير ذلك. فكما عودتنا إسرائيل وحليفتها وسندها الرئيس، التى لولاها ما بقت، الولايات المتحدة الأمريكية، أن تستفيد من كل عمل على المديين القصير والطويل، حتى لو أضر بها مؤقتا هذا العمل فى المدى القريب. من هنا بدا الأمر مغايرا عما توقعه الكثيرون من عدة جوانب.
الجانب الأول، أن حرب غزة التى دخلت منذ أيام شهرها السابع، قلبت الموازين فى الرأى العام العالمى، لصالح القضية الفلسطينية، وكذلك لصورة إسرائيل السلبية التى باتت هى الصورة الأعم بسبب سياسة الإبادة الجماعية والفصل العنصرى والعقاب الجماعى وهدم المنازل والمستشفيات والمدارس فوق رءوس أصحاب الأرض.
هذا التغير يبدو أنه تعرض للاهتزاز تجاه عودة التعاطف مع الكيان الصهيونى الذى بات يروج مرة أخرى لكونه ضحية، وأن وجوده يتعرض للمخاطر.
صحيح أن إيران تعرضت لضربة قوية لبعثتها الدبلوماسية فى دمشق بفعل الإرهاب الصهيونى منذ أقل من ثلاثة أسابيع، لكنها للأسف لم تستثمر هى أو البلدان العربية ذلك لتشويه صورة إسرائيل لكونها دولة تنتهك اتفاقية فيينا للبعثات والحصانات الدبلوماسية عام 1961، فتغير على تلك البعثات الدبلوماسية، التى ظلت آمنة ويحترم وجودها الأعداء قبل الأصدقاء، مهما كانت حدة الخلافات بينهم.
الجانب الثانى، أن إسرائيل ترغب فى الحصول على الدعم العسكرى والعتاد الأمريكى والغربى، ليس فقط للتعويض عن خسائر غزة، بل لكونه استراتيجية ثابتة لضمان وجودها، حيث تقلص الدعم العسكرى الأوروبى لها بشكل واضح، لكن الدعم الأمريكى ظل باقيا رغم الحديث المتكرر عن ضرورة القيام بمراجعة صفقات الأسلحة المقررة للكيان الصهيونى داخل الكونجرس الأمريكى. هذه الضربة الإيرانية أدت فى الواقع إلى العودة للوراء، لأن إسرائيل روجت وما زالت لنفسها أنها فى أمَس الحاجة للدفاع عن نفسها أمام مخاطر إزالتها، وبالطبع سيجد الغرب ضالته وحجته فى العودة للدعم العسكرى بلا حساب، لو عرف أن القائم بتهديد إسرائيل هو إيران الطرف الأكبر الداعم للحركات والميليشيات التى تقلق مضاجع المصالح الغربية فى المنطقة، وكذلك بسبب الكثير من الإزعاج الذى يشكله البرنامج النووى الإيرانى للمصالح الأمريكية والصهيونية.
الجانب الثالث والأهم هو أن الولايات المتحدة ستسعى من خلال الضربة الإيرانية كى تغرس فى أذهان بلدان الخليج خاصة العربية السعودية أن التهديد الرئيس لها هو إيران. صحيح أن حدة المشكلات بين السعودية وإيران قد هدأت نسبيا بعد الاتفاق على تحسين العلاقات بين طهران والرياض والذى رعته بكين نهاية العام الماضى، لكن ما من شك فى أن هذا القلق الأمريكى سيعود مرة أخرى ليغرس فى ذهن بلدان الخليج العربية فكرة أن العدو الأول لهذه الدول هو إيران. المؤكد أن أهم نتائج ذلك المزيد من صفقات السلاح الأمريكى لتلك البلدان، وكذلك إظهار أن الرياض هى من سيلح أكثر من أى وقت مضى على واشنطن لتوقيع اتفاق تعاون استراتيجى بينهما، وكذلك الرياض بطائرات F35 المفاعل النووى للأغراض السلمية والأهم من كل ذلك تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب، وهو التطبيع الذى أوقفته حرب غزة.
هكذا يبدو المشهد فى الأيام المقبلة مربكا ومعقدا إلى حد كبير، خاصة إذا ما قامت إسرائيل بالرد على إيران وقامت الأخيرة برد آخر خائب أو أكثر خيبة، رد لا يستتبع من خلاله لفت أنظار العرب والمسلمين إلى إيجابية هذا العمل بكونه قد حقق خسائر موجعة للكيان الصهيونى، ولم يكن مجرد ورقة توت لمنع إراقة ماء وجه النظام فى طهران ثانية.