من الطبيعي والمنطقي أن نغضب جميعا ونرفض أية محاولة للمساس بسيادة مصر أو خرق أمنها القومي مهما كانت المبررات والأسباب والحجج. وقد عبرت عن هذا المعنى في مداخلتي أمام مجلس الشورى عند مناقشة القضية التي اصطلح على تسميتها بقضية خلية حزب الله، فذكرت "أنني أنضم إلى ما ذكره السيد رئيس المجلس والحكومة ولجنة الشئون الخارجية والعربية والأمن القومي من ضرورة احترام سيادة مصر ورفض أي مساس أو محاولة للمساس بأمنها، كما أرفض أي محاولة لتشويه الجهود التي تقوم بها مصر في خدمة كل القضايا العربية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
وأوجه التحية إلى أجهزة الأمن التي تسهر على حفظ أمن مصر، وإلى أجهزة التحقيق التي تعمل جاهدة وبأمانة لكشف الحقائق كلها. وأوافق على ما جاء في بيان الحكومة من ضرورة انتظار نتيجة تحقيقات السيد النائب العام الذي جاء في بيانه الأول الذي تناول تحريات أجهزة الأمن "أن التحقيق ما زال مستمرا". وقد يكشف ذلك في رأيي كثيرا من الأمور التي ما زالت خفية والتي قد تحتاج إلى اتخاذ إجراءات محددة في المجالين القانوني والسياسي.
وقد كنت حريصا على ألا أنساق وراء حملات من النوع الذي أشرت إليه في مقالي في الأسبوع الماضي، والتي ضاع فيها المنطق ـ وبعضه كان سليما ـ وسط سيل من الشتائم والتنابذ بالألقاب والتعميم المخل والخلط بين أمور يجدر تناولها بالحرص تجنبا، للوقوع في خطأ مداواة الداء بدواء هو كالداء ذاته أو ألعن. ومن ذلك إني أرى من غير المنطقي ولا المقبول أن ننتقل من حادثة معينة تستحق الإدانة والعقاب، إلى الإسهام في إحياء نعرات طائفية ليس من المقبول أن نعرض مصر لها، إضافة إلى ما تعانيه من مشكلات بعضها مفتعل في هذا المجال وفى غيره. فالأمر الخطير في حد ذاته لا يجب تحميله بخوض معارك قرون مضت وانتهت بنوع من الهدنة التي تمنينا أن تكون دائمة حتى لا يُحمل جيل يتطلع إلى التقدم بأثقال نزاعات أُلبست مسوح الدين، وهى سياسية محلية مرتبطة بعهود غابرة ، وبتنافسات لم يعد إليها أي معنى أو يجب ألا يكون لها أي معنى في عصرنا الحديث. فمسائل الشيعة والتشيع، والفرس والعثمانيين لا يجوز في تقديري أن تُثار إلا في كتب التاريخ نستفيد من دروسها دون أن نحاول استرجاعها لاستخدامها كأنها دواء انقضت مدة صلاحيته فيكون ضرره أكبر من أي فائدة قد تكون بالفعل مستهدفة. ولكننا نعرف أن الطريق إلى جهنم كثيرا ما تكون مفروشة بنوايا طيبة، أو كانت تظن أنها طيبة. يجب أن نقر بأن مصر معرضة لفتن كثيرة بعضها داخلي وبعضها خارجي، وإلى احتقان يرجع بعضه إلى عدم الإسراع بالعلاج الناجع أو إلى اختيار العلاج المخالف لما هو مطلوب، ويرجع البعض الآخر إلى غرور قد يصيب بعضنا فننسى أن الصداقات يجب أن يعتني بريها، وأن الدور المصري لا يحتاج إلى أن تؤكده كل يوم بالقول، بل هو حقيقة يقر بها حتى من يهاجمون ذلك الدور، ويحن إليها من يتصورون أنهم يفتقدوه، وعلينا أن نقبل شرفه وتبعاته، انطلاقا من حقيقة أن الأمن القومي للمنطقة التي نعيش فيها هو جزء من أمن مصر، وأمن مصر هو ضمان لأمن المنطقة كلها، وهى بديهية لا تحتاج إلى التأكيد باستعلاء أحيانا وباستعداء أحيانا أخری، لأن الجميع يعرفونها في المنطقة ذاتها وبين أصدقائها وأعدائها. وأنا لا أقول هذا الكلام إلا لأن البعض ـ منا ومن غيرنا ـ يسيئون إلى هذه الحقيقة. ولا أريد أن أعود إلى الحديث في هذا الأمر مرة أخرى من هذه الزاوية، ولكنى أريد أن أشير إلى مغزى حديث شيمون بيريز رئيس دولة إسرائيل حين أبدى سعادته لأن الأزمة بين مصر وحزب الله تشغل الجميع عن إسرائيل. وقد أعرب عن ارتياحه لأن عربا يتقاتلون على حد قوله بعيدا عن إسرائيل. ولعل هذا الكلام يؤكد حقيقة أن إسرائيل تحاول الاستفادة من كل نزاع عربي، وهو أمر لم نكن نشك فيه، ولكنه ربما يذكرنا جميعا بأن الأولوية يجب أن تكون لوضع حد لتلك النزاعات سواء بين الدول وبعضها، أو بين المنظمات الفلسطينية، أو بين الدول والمنظمات المقاومة الفعالة تحتاج إلى تدبير وتنسيق رغم عنصر المغامرة الذي هو بالضرورة جزء منها، وهى مغامرة لها بالقطع حسابات لا تلغيها ولكنها تعظم فاعليتها، وتستهدف العدو الحقيقي وليس أعداء فرعيين أو موهومين.
وما دمنا نتحدث عن تجاوز الخلافات عن طريق الحوار وعدم الخلط بين التناقضات الرئيسية والتناقضات الفرعية، فإني أجد نفسي مدفوعا إلى الحديث عن العلاقات مع إيران. والغريب أنه كلما تحدث أحد عن ذلك تعرض لسهام واتهامات بالتحزب لتلك الدولة باعتبارها دولة معادية، مع أن الحوار مع دول أخرى معادية لا يواجه بمثل هذه المناقضة الشرسة. وإيران مثلها مثل دول أخرى بينها وبيننا خلافات ونزاعات معروفة، ولكنها قطعا لا تصل إلى ما قرأته في جريدة عربية رصينة بقلم صحفية محترمة نقرأ لها منذ عقود، من أننا نواجه «نفوذا إيرانيا جائعا وجشعا يريد حرق كل أخضر ويابس عربي وأن يربض على أنفاس كل العرب». والواقع أن إيران دولة تقع في منطقتنا لها أطماع لا شك فيها مثلها مثل كثير غيرها، وبيننا وبينها تاريخ فيه أيام مختلطات ونزاعات منها الإقليمي، الذي ترفض طهران حله عن طريق اللجوء إلى التفاوض أو التحكيم. وهى دولة قد تكون لها تطلعات نووية تقلق البعض ولكن ليس بدرجة القلق الواجب من إسرائيل النووية مثلا. وهى على أية حال تطلعات لم يثبت أنها عسكرية بالضرورة، كما أنها تخضع لنظام لا أحبه شخصيا لأني ضد الأنظمة الدينية التي تنتهي عادة إلى تأليه نفسها. ومع كل ذلك فإنه من الضروري، وأعتقد أنه من الممكن الدخول معها في حوار يضع إطارا مقبولا لعلاقات تعايش قد يصل إلى تعاون يضمن الحقوق ويحافظ عليها ويمنع الضرر المحتمل عن طريق الاتفاق على مدونة للسلوك تتضمن الخطوط الحمراء.
وقد رأينا أن غيرنا ممن كان أعدى أعداء إيران في نهدها الحالي، ومن كان حليفا للنظام السابق الذي أساء إلينا كثيرا، يستعد للدخول في حوار، وهنا ينفى الادعاء الغريب وغير المنطقي الذي يقول إن الحوار مع إيران يكرس مركزها كدولة عظمى في المنطقة، وإلا فما معنى حوار دول أخرى مع إيران لا يعقل أنها تريد تكريسها كدولة عظمى؟ ولعلنا نذكر بأن الحوار لا يعنى التنازل عن المواقف والمبادئ ولكنه محاولة «قد تنجح وقد تفشل ولكن الفشل المؤقت لا يعنى عدم المحاولة من جديد» لخلق ظروف أكثر ملائمة للحفاظ على أمننا القومي ومصالحنا الوطنية وهما هدف كل سياسة.