عن سواكن الطبقة الوسطى وهواجسها - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 10:13 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن سواكن الطبقة الوسطى وهواجسها

نشر فى : الأربعاء 21 فبراير 2024 - 8:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 21 فبراير 2024 - 8:15 م
الانتماء إلى الطبقة الوسطى هو حلم الفقراء سعيا للانفلات من مخاوف العوز ومكاره إهدار الكرامة على أعتاب مقدمى الإعانات. كما أن الانتماء إلى الطبقة الوسطى يفضله كثير من الأثرياء تواضعا، أو إشارة إلى عصاميتهم صعودا إلى شرائح الدخل الأعلى، أو اتقاء لسهام النقد والتساؤلات، وتربص بعض السلطات. وتجد الطبقة الوسطى حافظة لقيم الاستقرار والمنافسة، والتمسك بالرغبة فى التعلم والتثقف، وحامية للمجتمع من الدخائل على أنماط حياته وتهيئ له مقومات التقدم.
وفى كتابه الموسوعى عن تاريخ الطبقة الوسطى يصفها المؤرخ البريطانى لورنس جيمس بالبراغماتية والقدرة على المواءمة والتعايش، وأن هذه الطبقة مجتمعة تمثل مشروع وعبقرية الأمة التى تنتمى إليها. فأفرادها يدركون ما هو الواجب عليهم فعله ويسعون جهدهم لتحقيقه. ومن ثم يتوقعون من الدولة حمايتهم وصون ممتلكاتهم وضمان حرياتهم فى الحراك لأعلى حيثما يقودهم طموحهم وتمكنهم مؤهلاتهم دون عائق، ومن هنا يأتى اهتمامهم بتعليم الأبناء سعيا لمستقبل أفضل مما حققه لهم آباؤهم.
وقد اعتاد بعض الباحثين على تعريف الطبقة الوسطى اكتفاء بالدخل لسهولة الحصول على بياناته، بينما اعتمد باحثون آخرون على مؤشرات مركبة لتحديد الطبقة الوسطى يصعب توفير بيانات عنها بشكل منتظم. وسأعتمد هنا أسلوبا عمليا فى تعريف الانتماء إلى الطبقة الوسطى باعتبار ما يتفق عليه عموم الناس من خلال استطلاع رأيهم عما يجعلهم من هذه الطبقة.
وفى مسح إحصائى، أجرته صحيفة «واشنطن بوست» فى نوفمبر (تشرين الثانى) الماضى، على 1280 أمريكيا، كان تعريفهم لخصائص هذه الطبقة وفقا لستة معايير: فأكد 93 فى المائة من المستطلع رأيهم على أهمية وجود دخل من عمل منتظم، 91 فى المائة ذكروا القدرة على الادخار للمستقبل، 90 فى المائة أشاروا إلى القدرة على دفع كل الفواتير الشهرية دون قلق، 90 فى المائة منهم نوهوا عن إمكانية تدبير 1000 دولار للطوارئ دون اللجوء إلى الاقتراض، 89 فى المائة منهم زكوا التمتع بتغطية تأمين صحى، بينما أشار 87 فى المائة منهم إلى القدرة على التقاعد عن العمل دون شقاء. ثم تلى هذه المعايير أهمية خمسة أخرى: فأشار 73 فى المائة إلى تضمن العمل إجازة مرضية مدفوعة الأجر، 67 فى المائة ذكروا أهمية أن تكون هناك إمكانية مادية لقضاء إجازات، 60 فى المائة أعربوا عن أهمية امتلاك مسكن، 46 فى المائة ذكروا القدرة على تناول الطعام فى مطعم وقتما يريدون، بينما أشار 31 فى المائة إلى ضرورة الحصول على درجة تعليم عليا.
ووفقا لهذا الاستطلاع وباعتبار تكلفة المعيشة، فالأمريكيون يعتبرون أن أسرة من 4 أفراد ذات دخل يتراوح بين 75 ألفا و100 ألف دولار سنويا هى أسرة متوسطة الدخل.
ونستخلص أن فهم عموم الناس فى الولايات المتحدة للانتماء للطبقة الوسطى يرتبط بتوفر ضمانات الاستقرار المعيشى اللائق فى الحاضر والاطمئنان على مستوى معيشة مرضٍ لهم فى المستقبل. وقد أظهر الاستطلاع أن 35 فى المائة فقط من الأمريكيين حظوا فعلا بتوفر المعايير الستة الأولى لديهم لتحقيق الانتماء للطبقة الوسطى. وأن من أكبر الهواجس هو تأمين فترة تقاعد مريحة، حتى بافتراض تحقيق مدخرات بسبب تغييرات سياسات الضمان الاجتماعى والتأمين الصحى على مدى العمر المتوقع بعد التقاعد.
وفى استطلاعات للرأى فى اليابان فى فترة النمو المطرد فى السبعينيات والثمانينيات، كان الرد السائد عند سؤال الشباب عن طموحهم فى المستقبل، هو أن يكونوا ببساطة مثل سائر الناس. فقد كانت اليابان تعرف وقتئذ بمجتمع يفتخر 90 فى المائة منه بانتمائه للطبقة الوسطى. ولكن فى استطلاعات أحدث للرأى أجراها معهد اليابان لسياسات العمل والتدريب جاءت النتائج تعكس ما جرى للطبقة الوسطى بعد عقود عدة من النمو المنخفض والتراجع الاقتصادى. وعرف 60 فى المائة من المستطلع رأيهم الانتماء إلى الطبقة الوسطى بتمتعهم بعمل منتظم وامتلاكهم سكنا وسيارة خاصة.
وذكر 56 فى المائة منهم أنهم يعيشون فى مستوى معيشة أقل من الطبقة الوسطى، و6 فى المائة أكدوا أنهم يتمتعون بمستوى أعلى، بينما ينطبق التعريف البسيط الذى اختاروه للطبقة الوسطى على 38 فى المائة فقط. بما يعنى أن الطبقة السائدة فى المجتمع وفقا لهذا الاستطلاع لم تعد الطبقة الوسطى. فتحقق افتراض الحصول على عمل منتظم لم يعد الدخل المتحصل منه كافيا للحفاظ لصاحبه على مستوى معيشة الطبقة الوسطى أو يوفر له ضمانا للمستقبل. فكان رأى 41 فى المائة من العاملين بدخول منتظمة أنهم يلبون طلبات معيشتهم بالكاد، وذكر 11 فى المائة عدم قدرتهم على تحمل تكاليف الحياة رغم عملهم بانتظام.
يؤثر هذا الوضع سلبا على قدرة العاملين على الاستهلاك ويخفض معدلات الإنجاب فى دولة تميل فيها التركيبة السكانية إلى الشيخوخة مع تراجع الإنتاجية والتنافسية، كما يهدد الاستقرار المجتمعى بزيادة حالة الإحباط وفقدان الرغبة فى العطاء. وكانت توصية الخبراء للحكومة بالتعاون مع أرباب الأعمال والعاملين أنفسهم لسرعة اختراق هذه الدائرة المخيبة للآمال، بمراجعة مخصصات الأجور، وزيادة البرامج المخصصة لتحسين مهارات العاملين، وتطوير نظم الضرائب والمعاشات والضمان الاجتماعى لتحفيز سوق العمل.
فى خلال الفترة الممتدة من قبل سقوط حائط برلين بسنوات قليلة حتى الأزمة المالية فى 2008 حدثت تغيرات حادة فى توزيع الدخول حول العالم بصعود لطبقات وسطى طموحة فى الدول مرتفعة النمو وأهمها الصين وجوارها فى شرق آسيا، ثم تبعتهم الهند. بينما تعرضت الطبقة الوسطى فى الغرب إلى ضغوط وتراجع فى تنافسيتها النسبية، وارتفعت حدة تفاوت الدخول بين الأغنى والأفقر. وتوالت الصدمات مصحوبة بتهافت السياسات وضعف المؤسسات فى بلدان نامية عدة خاصة مرتفعة المديونية منها فاعتصرت الطبقة الوسطى بضربات متلاحقة بين معضلات الأزمات وتكاليف الإصلاح.
وفى مقال قادم سأستعرض تبعات هذه التغيرات الحادة وسبل التعامل معها، فمساندة من يعانون فقرا مدقعا قديم الجذور يختلف بالضرورة عن سبل انتشال حديثى السقوط فى هوة الفقر، والأوْلى استنقاذهم منها قبل السقوط، وقديما أوصى العرب برحمة غنى افتقر وعزيز ذل.
التعليقات