قهوة بلا طعم - من الفضاء الإلكتروني «مدونات» - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:16 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قهوة بلا طعم

نشر فى : الإثنين 22 مارس 2021 - 7:55 م | آخر تحديث : الإثنين 22 مارس 2021 - 7:55 م

جلست ألتقط أنفاسى المتسارعة وأستجمع أفكارى المتوترة. نفذت تعليمات الطبيب الصباحية بدقة. تصفحت كراستى الصغيرة التى أكتب فيها كل عَرَض ظهر على مدار أسبوعين استعدادا لزيارة الطبيب فى المساء. رشفت قهوتى فى هدوء. قهوتى كما أفضلها دائما فى الصباح، ساخنة بنكهة قوية دون سكر أو لبن. أخذت رشفة أخرى. تسارعت ضربات قلبى وتذوقتها عدة مرات. أدركت على الفور أنها بلا طعم وتأكدت أننى فقدت حاستىّ المُفضلتين: التذوق والشم.
***
قررت إخفاء الأمر ولو إلى حين، إذ لم تعد العائلة تتحمل المزيد من التوتر. كان لابد أن أظل بخير لأنفذ تعليمات الطبيب وليستمر كل شىء فى البيت بنظام. ساد الصمت فى المنزل الذى طالما اشتكيت من عدم تمكنى من الجلوس فيه بهدوء ولو لساعة واحدة. الجيران يمرون لتناول القهوة والحلوى فى الصباح، الحفيدان يملآنه بالضحكات وبالحكايات عن الكلمات والمهارات الجديدة ويلتفان مع الأقارب فى نهاية الأسبوع لتناول العشاء حول مائدة الجَد والجدة العامرة بالدفء قبل الطعام. فجأة تصل رسالة من معمل التحاليل فيسود الصمت فى المنزل ويبيت كل منا حبيس غرفته.
***
عاصرت موجة الكوفيد الأولى فى هولندا. رأيت خلالها ما ظننته مستحيلا. أساطيل الطائرات حبيسة الأرض والمطارات خالية من مسافرين. جاء الربيع وتفتحت أزهار التيوليب المبهجة دون أن يجد من يتمتع بها فى حدائقها الشهيرة الرائعة. انتشرت دعوات لشرائه وإنقاذه من مصير محتوم إلا أن الخوف منع الناس من الخروج فذبل التيوليب وفرغت الشوارع وأظلمت المدينة. قواعد التباعد الاجتماعى أحاطت بنا فى كل مكان، حتى سكان المدينة الذين اشتهروا ببشاشة وجوههم تبدلت ملامحهم وحلت النظرات القلقة محل الابتسامات المرحبة. حاولت الهروب من الموجة وعدت لمنزلى فإذا بها تلاحقنى حتى تمكنت منى.
***
تتعدد أعراض هذا المرض وتختلف حدة الإصابة من شخص لآخر، باستثناء عرض واحد نتأكد عندما يظهر، وبما لا يدع مجالا للشك، من الإصابة وهو فقدان حاستى التذوق والشم. الكوفيد لا يختلف عن عرضه القاطع إذ ينتزع من الأشياء جوهرها. الأنوف لم تعد تشم ولا الألسنة تتذوق. لم تعد العيون مُطَمئِنَة أو مُطْمَئِنة. صار اللمس مصدرا للعدوى وليس حاسة نتواصل بها لننقل مشاعرنا وطاقاتنا التى تعجز كلماتنا عن التعبير عنها. نتخلف عن وداع رفاق الطريق وداعا لائقا، حُرمنا من النظرة الأخيرة أو الصلاة عليهم. اكتفينا بصلوات ودعوات وحيدة هادئة فى بيوتنا أو غربتنا، تارة نبكيهم، وتارة أخرى تختنق الدموع وتتحجر فى أعيننا. فقد الكثيرون وهم فى غربة باردة أو على أسرة المرض شركاء العمر أو ذويهم دون وداع فى لحظة كفت فيها الأرض لهم عن الدوران. أفقد الكوفيد لقاء الأحبة حرارته والأحضان دفئها. تلك اللحظة اللعينة: ترى أحباءك وبدلا من الاستسلام لمشاعرك والارتماء فى أحضانهم الشافية بالحب أو بالمواساة تفكر ألف مرة إذا ما كان الاقتراب آمنا ومسموحا؟ كيف أصبحنا نفكر ونتحكم فى عفوية اللقاء؟ أحقا صار التحكم فى تعبيرنا عن المشاعر علامة حب؟ كيف جعلنا القناع كاشفا عن مدى حرصنا على من حولنا؟ كيف تكون الإيماءة عن بعد بديلا للأحضان الغامرة والابتعاد عنوان الاهتمام؟ أفكر؛ هل فقدنا قدرتنا على التواصل، أم صارت مشاعرنا أكثر حساسية للصادق منها والجميل؟
***
أعود لقلقى. تلقيت تعليمات جديدة من الطبيب لأتابع تطورات المرض فى العائلة، من بينها تعليمات صارمة تدلنى على السيناريو واجب التنفيذ عند حدوث عوارضه. شعرت وأنا أتلقى التعليمات أن أدوار الأهل والأبناء تغيرت. تذكرت من بين ما تذكرت كيف أخذ على عاتقه مهمة تضميد جرح كبير لثلاثة شهور وبعناية فائقة حتى لا يترك ندبة، وكيف سهرت تبرد جبينى فى ليالى الحمى. أحاطانى بالرعاية وأنا طفلة واليوم كبرا فحان دورى.
***
مرت الأيام ثقيلة وخرجنا من عزلتنا. عاد الحفيد وأخوه للمنزل. قرر أنه لن يترك المنزل المحبب الذى يتلقى فيه جميع أطياف الدلال. تبادلنا الحديث كعادتنا بعدما انتهينا من حكاية ما قبل النوم. قال لى: «عارفة، لو ممكن اتكلم مع ربنا، هقوله يخلى الكورونا تمشى!». طفل لم يتجاوز السابعة، جل مراده إذا تأتى له الحديث مع الله أن يطلب منه تخليصه من الجائحة! إذا كنا نحن الكبار نئن من وطئتها! فما بال الصغار؟ حرموا عفويتهم وانطلاقهم. أصبح التعليم دون تواصل مع المعلم أو أصدقاء الدراسة. يتلقى الصغار أول دروس الحياة من وراء شاشات إلكترونية باردة تضيع وراءها أصواتهم وصورهم. يتحركون بأقنعة للوجه ويتعلمون مبكرا التحكم فى مشاعرهم حتى لا يصابون بالعدوى. نجد نحن الكبار السلوى فى ذكرياتنا وصبانا فنتكئ عليها، فأى ذكريات وانطباعات ستتركها الجائحة عند الصغار لأيامهم القادمة؟
***
أفكر فيما يسمونه عالم ما بعد الكوفيد أو «المعتاد الجديد»، أتساءل كيف يكون الأمر جديدا ومعتادا فى نفس الوقت؟ أليس الجديد غريبا؟ والمعتاد تألفه النفس؟ كيف نحيا فى ظل قواعد «التباعد الاجتماعى». تباعد؟ واجتماعى؟ كيف يستقيم معنى «اجتماعى» مع معنى «تباعد»؟ نحن نجتمع فتقترب. أما الآن نجتمع فنبتعد وبقواعد! ما هذا المرض العجيب؟ فحتى أوصافه وتعبيراته تجمع دلالات متناقضة. كيف سيكبر هؤلاء الصغار وهم محاطون بهذه الأقنعة ويتعلمون أن الحب فى البعد وليس فى حضن دافئ؟ هل ستستعيد أيامنا جمالها وآمالنا بساطتها؟ أم ستظل قهوتنا بلا طعم؟

التعليقات