نشرت مدونة «صدى» التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتبة منى علمى تحدثت فيه عن سوء الأوضاع الاقتصادية التى يمر بها لبنان وأثر هذه الضغوط على المواطنين التى قد تدفعهم إلى عدم ترك الشارع... ونعرض منه ما يلى:
يتخبط لبنان فى أسوأ أزماته الاقتصادية والمالية منذ اندلاع الحرب الأهلية فى عام 1975. وقد تسببت الأزمة الاقتصادية فى اندلاع احتجاجات حاشدة ضد الحكومة، وهو ما أفضى إلى استقالتها فى أكتوبر. وأدى تدهور الأوضاع الاقتصادية وشح الدولار إلى فرض قيود على قيمة التحويلات بالدولار والليرة اللبنانية على السواء. وعلى الرغم من تدخل المصرف المركزى، خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 30 فى المائة من قيمتها، فوصل سعر الصرف إلى ألفَى ليرة مقابل الدولار. يتخذ المواطنون اللبنانيون إجراءات تقشفية شديدة فى مواجهة الظروف الاقتصادية العسيرة، وبسبب خسارتهم لوظائفهم أو عجزهم عن تأمين لقمة العيش لعائلاتهم. يمر لبنان، بعد سنوات من الإدارة الاقتصادية السيئة، بأيام حالكة، ولا يزال الحبل على الغارب.
والأزمة التى تعصف بلبنان ليست وليدة الساعة. فقد برزت فى الأعوام القليلة الماضية تحذيرات كثيرة من انهيار اقتصادى وشيك. بعد انتهاء الحرب الأهلية، اعتمد لبنان فى التسعينيات رؤية اقتصادية قصيرة المدى مبنية على الخدمات، لا سيما تأمين الخدمات للبلدان المجاورة، فباتت مرهونة إلى حد كبير بالأجواء السياسية فى المنطقة. وفى سبيل إعادة إعمار البلاد، ركزت حكومة رفيق الحريرى على استمالة المودعين الأجانب من خلال الفوائد المرتفعة، وهو ما تسبب فى نشوء اقتصاد ريعى والحيلولة دون تطوير القطاع الإنتاجى وتنويعه. وقررت الحكومة ومصرف لبنان تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار عند 1515 ل.ل. وقد تبين، فى المدى الطويل، أنه إجراء مرتفع الكلفة لأنه أدى شيئا فشيئا إلى استنزاف احتياطى الدولار. وتسببت المساومات السياسية، على مدى سنوات، بتعطيل الإصلاحات الضرورية، فكانت النتيجة استفحال الفساد واستمرار حالة انعدام الاستقرار.
***
فى مطلع التسعينيات، انطلق أيضا مشروع واسع النطاق لإعادة إعمار البلاد، وقد فاقت قيمته 18 مليار دولار، وكان الهدف منه تحويل لبنان إلى مركز إقليمى فى القطاعات السياحية والعقارية والمالية. ولكن هذه القطاعات كانت تعتمد إلى حد كبير على الأموال من أصحاب الثروات فى المنطقة ومن المغتربين اللبنانيين فى الخارج. وقد شكل هؤلاء المغتربون أكثر من نصف مجموع السياح الوافدين إلى لبنان بعد اتفاق الدوحة فى عام 2008، والذى ساهم فى إطلاق مرحلة وجيزة من الاستقرار السياسى فى مختلف أنحاء البلاد. وقد سجل قطاع العقارات نموا كبيرا بعد إعادة إعمار وسط بيروت. وتوسع النمو ليشمل مختلف المناطق اللبنانية، وهو ما أدى إلى زيادة المضاربات وصولا إلى الحرب السورية فى عام 2011. فهبوط أسعار النفط العالمية، وما أعقبه من تباطؤ اقتصادى فى الخليج، والحرب فى اليمن، وقبلها الحرب فى سوريا، كلها عوامل تسببت فى زعزعة الأجواء السياسية والأمنية فى لبنان. وكذلك أدى التباطؤ الاقتصادى فى بلدان الخليج، وحرب اليمن، وأزمة الخليج إلى تقويض القدرة الشرائية للسياح والمستثمرين فى المنطقة. وأكثر من ذلك، تراجعت الإمكانات المالية للمغتربين اللبنانيين، وعددهم 400 ألف، فباتوا أقل قدرة على شراء السلع والخدمات. وتسببَ التشنج فى العلاقات بين حزب الله ودول الخليج أيضا بتراجع الدعم والإنفاق من مواطنى تلك البلدان فى لبنان الذى لا يزال يعتمد إلى حد كبير على الاستثمارات والمساعدات الخليجية.
والصعود الديناميكى للقطاع المصرفى اللبنانى يشهد تباطؤا أيضا. منذ عام 1992، كان للقرار الذى اتخذته الحكومة بإصدار سندات خزينة على نحوٍ منتظم لتمويل إعادة إعمار البلاد أثرٌ كبير على طريقة عمل المصارف. ففى سبيل استقطاب الودائع التى سمحت للمصارف بتمويل الديون، دفعت الحكومة باتجاه رفع الفوائد. وبحلول سنة 2019، بلغت الفوائد أعلى مستوياتها، لتصل إلى 8 فى المائة على الودائع بالدولار وأكثر من 12 فى المائة على الودائع بالليرة اللبنانية. فضلا عن ذلك، أدى الفارق فى سعر الفائدة إلى مضاربات افتراسية تعود بالنفع على الطبقات الأكثر ثراء. ولم تؤثر هذه الفوائد فقط فى خزانة الدولة اللبنانية عبر التسبب بنمو سريع فى الديون، بل حدت أيضا من نمو قطاع الأعمال. وقد فضلت المصارف الاستثمار فى سندات الخزينة، ولكنها لم تنوع مخاطرها. وخفضت بصورة مطردة القروض التى تمنحها للقطاع الخاص الذى أضعفت الحرب الأهلية قدرته الإنتاجية. وفى هذا السياق، يؤكد فادى مكى، وهو خبير فى الاقتصاد السلوكى ومؤسس الجمعية اللبنانية للاقتصاد السلوكى ــ نادج ليبانون و«مختبر المواطن المستهلك» (Consumer Citizen Lab)، أن «الاقتصاد الريعى لم يترك مكانا لرواد الأعمال».
***
استمر الاستخدام الواسع للدولار فى الاقتصاد اللبنانى، وحافظ مصرف لبنان على تثبيت سعر الصرف مقابل الدولار الأمريكى. يقول مروان ميخائيل، كبير الاقتصاديين ورئيس قسم الأبحاث فى «بنك بلوم إنفست»، إن الخزينة واجهت ضغوطا متزايدة مع تعرُض لبنان لصدمات اقتصادية مطولة. وجاءت هذه الصدمات فى أعقاب أحداث سياسية مزعزعة للاستقرار منها العدوان الإسرائيلى فى عام 1996، واغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريرى فى عام 2005، والحرب الإسرائيلية فى عام 2006 ــ وأفضت مجتمعة إلى هروب الرساميل. وفى هذا الصدد، لفت ميخائيل إلى أن معظم الصدمات السابقة استمرت فى المعدل لمدة ثلاثة أشهر تقريبا، فى حين أن التراجع الاقتصادى الحالى مستمر منذ عام 2011. وقد تسبب تراجع التحويلات من الخارج، واستعمال احتياطى مصرف لبنان بالدولار لحماية الليرة اللبنانية، وهبوط معدلات النمو، بنزف فى صناديق الدولة اللبنانية.
ومع ذلك، ترفض الطبقة السياسية تطبيق إصلاحات هيكلية. يتسبب الهدر فى قطاع الكهرباء وحده بخسائر تفوق قيمتها 37 مليار دولار من مجموع العجز البالغ 87 مليار دولار. وفقا لمؤشر مدركات الفساد، سجل الفساد فى لبنان مستوى قياسيا عبر حلوله فى المرتبة 143 (من أصل 175) فى عام 2017، ويُعتبَر تراجعا حادا بعدما كان فى المرتبة 63 فى عام 2006. ويُشير ميخائيل إلى أن عجز ميزان المدفوعات ازداد منذ عام 2011، ليصل العجز التراكمى إلى 18.5 مليار دولار فى أواخر يوليو 2019. وقد ارتفع العجز من 3.1 مليارات دولار فى عام 2014 إلى 6.2 مليارات دولار فى عام 2018، وفقا لأرقام صادرة عن بنك بيبلوس.
وتفاقمَ العجز فى ميزان المدفوعات بسبب الاستثمارات غير المربحة فى تركيا وسورية، فضلا عن تدهور المؤشرات المالية مثل عقود مبادلة مخاطر الائتمان (أى مخاطر تخلف الحكومة اللبنانية عن السداد). وقد دفعت هذه العوامل، إلى جانب التراجع فى تصنيفات الديون السيادية، بالمصرف المركزى إلى التدخل مرات عدة فى السوق من خلال الهندسات المالية. وعمدت وكالة فيتش أيضا إلى خفض تصنيف قدرة المصارف اللبنانية على الاستمرار من cccــإلىf. وزاد الطين بلة انتشار مزاعم عن قيام مستوردى النفط فى لبنان مدعومين من السياسيين بتهريب أكثر من 1.7 مليار دولار إلى سورية. إذا صح ذلك، فهذا التهريب للأموال يساهم فى تفريغ السوق اللبنانية من الدولار الأمريكى.
***
إن عجز الدولة المتزايد عن تمويل نفقاتها وديونها يحمل معه نقطة تحول جديدة وخطيرة بالنسبة إلى لبنان. وفى هذا الصدد، يقول مصدر من وزارة المالية: «فيما تتراجع إيرادات الدولة مع قيام مزيد من الشركات بإغلاق أبوابها واستمرار المأزق السياسى، يتحول عجز الحكومة عن تسديد رواتب موظفى القطاع العام إلى واقع فى الأشهر القليلة المقبلة».
يشتكى تجار المواد الغذائية والمحروقات فى لبنان، على نحوٍ مطرد، من عجزهم عن تمويل الاستيراد. ولا مفر من حدوث نقص حاد فى السلع الأساسية مثل المواد الغذائية والأدوية والمحروقات، وقد بدأت طواقم المستشفيات ومستوردو المعدات الطبية بدق جرس الإنذار. ويُغلق عدد متزايد من الشركات أبوابه. فى عام 2019، أغلق 265 مطعما أبوابه؛ ويُعتقَد أن أكثر من عشرة فى المائة من الشركات اللبنانية توقفت عن العمل، فيما عمد ما يزيد عن 22 فى المائة من الشركات إلى خفض أعداد موظفيه بنسبة 60 فى المائة. فضلا عن ذلك، تُشير تقارير إلى أن بعض أصحاب الشركات يدفعون نصف راتب لموظفيهم.
تتبدد يوما بعد يوم الآمال بتشكيل حكومة جديدة تتمتع بالكفاءة وتوحى بالثقة. يبدو وكأن البلاد تنزلق سريعا نحو الهاوية. وفى هذا الإطار، يُتوقَّع أن ترتفع نسبة البطالة وأن تعلن مزيد من الشركات الكبرى إفلاسها فى الأشهر القليلة المقبلة، وهو ما يؤدى إلى تفاقم أزمة شح الدولار، وبلوغ التضخم مستويات مرتفعة جدا، وعدم القدرة على الوصول إلى السلع الأساسية. إنه مجرد غيض من فيض التهديدات الفورية الكثيرة التى تحدق بلبنان. والضغوط الاقتصادية سوف تدفع بالمواطنين إلى مزيد من التعبئة للنزول إلى الشارع، وإلى تضخم النزعات العنيفة، فلا تبقى أمام الدولة اللبنانية سوى آفاق قاتمة.
النص الأصلى
http://bit.ly/34N8IXI