شهدت الأيام القليلة الماضية كثيرا من الأمور الملتبسات، بعضها يتحرك تحت السطح، وبعضها الآخر يتحرك فوقه، بعضها يبدو إيجابيا، وبعضها يبدو سلبيا، يحتار المرء في استخلاص حقيقة مغزاها، ولكنها في النهاية وببعض الاجتهاد، وربما بعض الخيال أو الأمل المبرر أو غير المبرر، قد تساعد على استخلاص صورة تجمع بين ظلال وأضواء في مفترق طرق تتيح خيارات على عكس فترات أخرى بدت فيها الخيارات محدودة أو حتى غير موجودة.
وحتى لا أسترسل في كلام قد يبدو مبهما، فإنني أود أن استعرض بعض ما استلفت نظري من أحداث وتطورات قد تبدو متفرقة، ولكنها قد تدخل ببعض الجهد ــ وربما الخيال ــ ضمن منظومة قد تحمل في طياتها معاني تبتعد بعض الشيء عن تشاؤم، بدا وكأن سحبه لا تريد أن تنقشع وتقترب ربما من احتمالات أن تسير الأمور في اتجاه مختلف أدعى إلى ظهور براعم قد تتحول إلى إرهاصات أمل.
ولعل أول ما أريد أن ألفت النظر إليه، هو الاتصال الأخير الذي جرى بين المملكة العربية السعودية وسوريا بعد فترة سادها غضب مكتوم و توتر ظاهر، ثم ما تلا ذلك من حديث عن لقاءات جماعية تساهم في إعادة بعض المياه إلى بعض مجاريها. وليس من شك في أن ذلك التحرك من شأنه أن يساهم في فتح شرايين العمل العربي، التي شهدت مرحلة من الانسداد لم يستفد منها أي طرف.
وليس أمامنا إلا أن نأمل أن يستمر هذا الاتجاه وصولا إلى تنسيق أفضل لجهود تبذل من دول مختلفة حول قضايا فلسطين والسودان وغيرها مما يشغل بال الأمة العربية، التي كان يؤلمها ويضر بلا شك بمصالحها أن تبدو تلك الجهود محل تنافس غير مبرر، بدلا من أن تكون متكاملة على أساس ربما من توزيع الأدوار بعيدا عن أي شعور بأن دورا يتناقض مع دور أو ينتقص منه. فالمؤكد الذي يجب ألا يغيب عنا، أن أي تناقضات بين الدول العربية هي تناقضات فرعية وثانوية في مواجهة تناقضات أكثر خطورة.
ومن المهم أن نعود في هذا الشأن إلى الصورة التي رسمها الأمين العام لجامعة الدول العربية، حين شبه العرب جميعا بركاب سفينة واحدة من مصلحة الكل أن يتعاونوا على سد ثقوبها. ولعلى هنا أن أصل إلى الموقف الفلسطيني، الذي أرى في توحيده أولوية يجب ألا تنتظر المناورات الإسرائيلية، التي تعوق «التهدئة»، التي بدت في مرحلة ما أنها تسبق استعادة لحمة الوحدة الوطنية.
فإذا كان الإسرائيليون ــ الذين يستعدون لتشكيل حكومة ائتلافية يغلب عليها طابع إدارة الظهر للمنطق والحق ــ يناورون ويتراجعون ويختلقون عراقيل جديدة غير مبررة أمام التهدئة، فلعلنا أن نغير الأولويات فنسرع بأجندة الوحدة الوطنية الفلسطينية ــ ولعلها أصبحت أقرب منالا بعد تجارب الفترة الماضية ــ فتكون دعما لجهود إعادة بناء ما دمره الإسرائيليون ماديا ومعنويا في الفترة الماضية.
ولعل الإدارة الأمريكية الجديدة أن تكون أكثر تمشيا مع مثل هذا الاتجاه، ولست أقول ذلك على اعتبار أن تمشيها أو عدم تمشيها هو شرط لا يمكن الاستغناء عنه، حتى إذا كان عنصرا مهما، ولكنني أريد أن أقرأ في زيارة السيناتور كيري رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي لغزة، وكذلك زيارة عضوين آخرين من الكونجرس عنصرا إيجابيا يجب الاستفادة منه.
صحيح أنهم لم يتصلوا «بنصف السلطة الشرعية» الموجودة في غزة، بينما نصفها الآخر في الضفة، ولكنهم لمسوا بأنفسهم آثار العدوان الإسرائيلي الغاشم المدمر، مما قد يجعلهم أكثر تفهما للموقف العربي، وأكثر استعداداً لإدراك بعض حقائق الوضع، ومنها أنه يجب التعاون مع القوى التي تعمل على توحيد الجبهة الفلسطينية (وهو ما تسعى إليه مصر رغم اختلافاتها المعروفة مع حماس) واقتران ذلك بعملية إعادة بناء ما دمره العدوان. ويجب التأثير على القوى السياسية الإسرائيلية حتى لا تعود إلى سياسات خرقاء أثبتت فشلها، وتتقدم بصدق ــ دون مراوغات ــ نحو تسوية حقيقية لا يمكن أن تقوم إلا على أساس دولتين.
وفى هذا الصدد، فإن التوازي بين تحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية ــ وهذا جهد عربي ــ وبين جهد أمريكي يمنع إقامة تحالف إسرائيلي داخلي، يتبنى سياسات التطرف والعنصرية، من شأنه أن يخلق أجواء أفضل تكون نتائجها في مصلحة جميع الأطراف وفى مصلحة السلام والاستقرار، بدلاً مما عاشته وتعيشه المنطقة من أوضاع متوترة تحمل في طياتها المزيد من المآسي.
وهذا يقتضى خطوات تشمل على الجانب العربي رأب ما تصدع وسد فجوات سوء التفاهم عن طريق حوار بلا حساسيات، وتسوية العلاقات مع الجيران على أسس واضحة لن تنبع إلا من حوار متعمق وصريح، وتوحيد الصف الفلسطيني دونما غالب أو مغلوب، لأن وطن الجميع هو المستهدف.
كما تشمل تلك الخطوات التعاون مع إدارة أمريكية جديدة قادرة على الفهم والتفاهم والتأثير على موقف إسرائيلي مازال في مرحلة تبلور حتى يتبلور في اتجاه يساعد على تحقيق كل تلك التفاعلات المرغوبة والممكنة إذا حسنت النوايا، وصولاً إلى الخروج من مآزق لا تصيبن الذين ظلموا، خاصة بل تنخع فيروساتها في أرجاء حياة الجميع.
هذا حديث أردته أن يكون حديث أمل، لعل التطورات القادمة لا تعيدنا إلى حديث القلق الذي يقود إلى اليأس.