إن الاختلاف في الرأي أمر لا يمكن - بل لا يجب - تجنبه، فهو ضرورة من ضرورات الحياة، يثريها حين يقلب كل جوانب أي مشكلة؛ حتى تستقر البوصلة على اتجاه محدد، يكون تعبيرا عن الأغلبية دون أن يعنى ذلك الإهمال أو الاستخفاف بالرأي الآخر، أو قهر من يختلف، أو اتهامه بالخيانة أو العمالة أو بغير ذلك من التعبيرات التي تتجاوز ما هو مقبول تأدباً وتعففاً، والتي نراها في بعض المراحل تحتل مقدمة ساحة الكلام، دون مقتضى من المنطق أو التقاسم الراقي المفيد، فتملأ سماءها بسحب وغيوم تضيع في ظلامها إمكانات التقدم مع التصحيح لما يحتاج إلى تصحيح أو تأكيد ما يستحق التأكيد، وهو أمر حتمي؛ لأنه ليس هناك موقف منزه عن الخطأ، ولا يوجد رأى هو الرأي المقدس الذي يجب أن ينحني أمامه الجميع لأنه لا بديل له.
وإذا كان الاختلاف في الرأي كثيراً ما يفسد للود قضية - على عكس المقولة الشهيرة - فإن الود قد لا يكون هو المطلوب عند تناول موضوعات بالغة الأهمية والخطورة، بل يجب أن تناقش بعيدا عن الفجاج والإسفاف على اعتبار أن الجميع مصريون يؤمنون بوطنهم وإن كانوا ينظرون إلى مصالحه من وجهات نظر مختلفة يجب أن تكون روافد تصب في النهاية بعد تقليب أوجه الرأي بصراحة واحترام متبادل لتشكيل منظومة تلتقي فيها روافد الفكر الوطني، لا تتصارع ولكن تتفاعل دون أن تصل بالضرورة إلى الرأي الواحد أو الأوحد، ولكن لتكون جزءاً من حقيقة متعددة الأبعاد تشكل في النهاية حقيقة أن الروافد تلتقي لتكوّن النهر العظيم الذي يحمل الخير والبركة والنماء والحياة لكل من يعيش على شواطئه في نموذج يجسم الأمن القومي من جميع نواحيه ويبرز كل الطرق - وقد تتعدد - المؤدية إلى تحقيقه والحفاظ عليه.
ومن هنا فإني أعتبر حرية الرأي وحرية التعبير عنه جزءاً أساسياً من البحث عن مصلحة الوطن، وأن يكون ذلك بأسلوب يحافظ على كرامة الجميع، ولا يلجأ البعض إلى ما أصبحنا نراه من عمليات التسخين والتسخيف باستخدام عبارات وتوصيفات تصدمنا إذا سمعناها في الشوارع والأزقة فما بالك عندما نراها مكتوبة في صحافة يوصف بعضُها بأنه قومي والبعض الآخر بأنه مستقل أو حزبي من المفروض أن تكون كلها نافذة يطل منها الناس - في الداخل والخارج - على مجتمعنا فيرون أنه مع عيوبه الأخرى الكثيرة، يحرص على ألا ينزلق إلى مستوى لا يليق بحضارة السنوات الألف السابقة التي نتباهى بها.
ويحتاج هذا إلى أن نستعيد - إذا كنا حقا فقدناها - روح الحوار بعضنا مع البعض ونحن جميعاً مع العالم بكلام راق يتوجه إلى العقل قبل أن يتوجه إلى الغرائز أو إلى الأحذية والشباشب، ولا يبحث عن خلق عداوات بغير مقتضى أو استرجاع خلافات بعضها مُستدعى من قرون مضت، فتظهر أحياناً روحاً شوفونية لا تليق بمصر، أو تبدو أحياناً أخرى كأنها رغبة في الاستئثار بأدوار في معارك تحتاج في الواقع إلى أكثر من يد قد تتوزع بينها الأدوار.
والحقيقة أنني أشعر أحياناً أن بعض الخلافات بين دول معنية - أو تريد أن تكون معنية - يمكن الاستفادة منها في السير في الاتجاه المرغوب كما يفعل الآخرون في أحيان كثيرة بنجاح لعلنا نستطيع أن نحققه، فالنيل الأزرق مثلاً يختلف في طبيعته عن بقية روافد النهر العظيم ولكنها عندما تلتقي فإنها تصبح معاً مصدر الحياة.
وقد تعجبت مثلاً لما قوبل به موقف رئيس وزراء تركيا في دافوس إزاء تقولات وافتراءات رئيس إسرائيل من استخفاف أحياناً بل هجوم دون أي مبرر، والانتقال من ذلك إلى نقد لاذع لبلد لمسنا في الفترة الأخيرة منه رغبة في أن يساعد، وهنا مثال واحد من أمثلة كثيرة لعل تناولها يأتي في مرات أخرى.
وحتى أعود إلى موضوعي الأصلي، فإني أكرر أن علينا أن نعيد تعلم أسلوب الحوار، وطريقة الاختلاف الراقي الذي يستند إلى المنطق والعقل بدلاً من الصراخ والانفعال الزائد أو الزائف أحياناً.
ولعل هذا هو ما دفعني إلى أن أرحب بشروق جريدة «الشروق» التي تجمعني بكثير من القائمين عليها الكثير من وثائق الصداقة والمودة والاحترام، والتي أثق أنها ستكون ساحة لحوار بناء تختلف فيه الآراء وتتباين دون أن يكون من أسلحته ماء النار أو السحابة السوداء أو السيوف المشهرة، بل الكلمة السواء التي تنطلق من حقيقة أننا جميعاً على اختلاف مشاربنا مواطنون لكل منا في الوطن قدر ما للآخرين، وحرصه عليه لا يقل عن حرص من يتصورون أن الصراخ هو الحل.