يعيش أغلب العرب في حالة من الحزن تكاد تقترب من اليأس، حتى من لا يزالون يؤمنون بالقومية العربية ولا يرونها تتناقض مع الوطنية المصرية بل تتكامل معها في منظومة قادرة على أن تواجه المخاطر الكثيرة ـ جديدها وقديمها ـ التي لا تفرق في الواقع ـ على عكس ما يفعل الكثيرون ـ بين المعتدلين والممانعين، والمشرقيين والمغاربة، بل حتى السنّة والشيعة.
فالمخاطر تصيب في النهاية الكل حتى إذا كانت في البداية لا تستهدف إلا البعض، وهذا الحزن الذي يشبه اليأس جعل الكثيرين يقتنعون بأن حل المأزق أصبح في يد الآخرين بعد أن كادت زمام الأمور تفلت منهم.
البعض تصور أن انتهاء عهد بوش الابن الأسود وحلول عهد أوباما الرجل الأسود ذي الجذور الإسلامية، يؤشر بحل مشكلات كثيرة، وكثيرون آخرون أبدوا اهتماما شديدا بالانتخابات الإسرائيلية كما لو كان بين المتنافسين فيها من على استعداد لأن يوقع صكًا يعترف فيه بالحقوق الفلسطينية والعربية، مع أن التنافس كان في حقيقته بين متشددين يذكرونني بمقولة قرأتها منذ سنوات في مجلة أمريكية حول زعيمين إسرائيليين كان يتنافسان، ومفادها؛ أن الأول يريد أن يأكل الفلسطينيين بطريقة «حضارية» أي بالشوكة والسكينة، والآخر يريد أن يلتهمهم بيديه على طريقة هنري الثامن في فيلم شهير، فلما جاءت الآن نتيجة انتخابات الكنيست تنبئ بأن الناخب الإسرائيلي قد صوت ضد السلام و«عملياته» التي لا تنتهي، فالأكثر تشددا يستبعد منذ البداية من المفاوضات موضوعات أساسية وحيوية، والأقل تشددا مستعد للدخول في مفاوضات لا نهائية، تمر على جميع المحطات دون أن تتوقف في أي منها.
ونسى بعضنا ـ حتى فيما بين العقلاء والمحللين النبهاء ـ أن الحل لن يأتينا من أوباما، أو من نتنياهو، أو ليفنى أو بيريز. فكلهم إن كنا نسينا ينطلقون من مفاهيم صهيونية عن أرض لليهود تختلف فيها فقط ـ وفقا لما يسمى "اعتدالهم أو تطرفهم" ـ درجة حاجتهم إلى عرب فلسطين كعمالة مسخرة محدودة الحقوق ومعدومة الاعتبار.
أما الحل الحقيقي فهو يأتي عن طريقنا سواء بالمقاومة الإيجابية، أو السلبية ، أو المفاوضات الجادة. بشرط أن تتوزع بيننا الأدوار بأسلوب يجمع بين الحسنين. و لذلك فإني أقول كما سبق و أن قلت أكثر من مرة:
1- إنه في النزاع بين فتح و حماس، لا يوجد أبرياء، بل كلهم مدانون بدرجة أو بأخرى. فكلا الطرفين انقلب على الشرعية و سمح لنفسه أن يتصارع على تاج الحكم، الذي يذكرنا بتاج الجزيرة في التمثيلية الإذاعية المصرية الشهيرة الذي لم يكن سوى "سلطانية".
وقد وقع الجانبان في فخ نصب لهما، و لا أقول إن هذا السقوط كان بالضرورة نابعًا من سوء نية، كما لا أقترح أنه جاء دائما بحسن نية، و لكنه قطعا جاء نتيجة قصر نظر و تعام عن حقيقة إن إسرائيل تناور و تتلاعب بالجانبين، دون أن تعطي شيئا. فلو أن إسرائيل أرادت أن توجه ضربة حقيقية لحماس لما احتاجت إلى التدمير اللا إنساني، بل لانتهزت فرصة مفاوضاتها مع أبو مازن التي تعددت لقاءاتها المملة حول مائدة العشاء في بيت أولمرت – لكي تثبت أن المفاوضات هي الوسيلة الحقيقية لتحقيق الأهداف الوطنية، ولوافقت على المطالب الفلسطينية العادلة. لكنها لم تعط للسلطة شيئا فأضعفتها وأضعفت حجتها، وبذلك شجعت على استمرار المقاومة التي هي النتاج الطبيعي لاحتلال بغيض لكي تنتهز الفرصة لتدمير الشعب الفلسطيني ذاته وليس فقط منازله ومدارسه ومستشفياته ومساجده؛ وليس فقط «حماسه» بل «فتحه» أيضا.
إذا كان التنافس على الخير في حد ذاته خيرًا، فإنه في بعض الأحوال يثير الكثير من الأتربة والشكوك ويترك الكثير من المرارات التي لا لزوم لها، وبينما أقدر أن المشاكل قد تصل إلى حد من التأزم والحدة يحتاج إلى أكثر من جهد، فإن الأمر يجب في هذه الحالة أن ينطلق في تنسيق وتفاهم وليس على أساس مشاعر من الغيرة غير المبررة يقابلها غضب غير مبرر أيضا، فالمكانات محفوظة وقد تختلف الإمكانيات وفقا لظروف معينة أو مؤقتة ولكنها لن تكون أبدا فاعلة إذا كانت تنطلق من منطلقات لا تعترف بحقيقتين؛ أولهما: أن المهمات كثيرا ما تكون شاقة تحتاج إلى أكثر من يد ومن جهد ومن فكر.
وثانيهما: أن ذلك يجب أن يتم في أجواء من التفاهم والتنسيق، وليس في جو من التنابذ بالألقاب والتلاسن والتباهي، يوحى أحيانا بأن الفعل أهم من النتيجة، وأن تسجيل النقاط والانتصار على الشقيق أهم من تجنب أخطار، هي في النهاية تستهدف وتصيب الجميع.
3ـ إنني أندهش أننا بينما كنا ومازلنا نواجه وضعا مأساويا على أرض فلسطين نابعا من مقاومة لاحتلال غاشم ـ ربما أخطأت التقدير أحيانا ـ أو اختارت التوقيت غير المناسب «إذا كان للمقاومة والرد على الاستفزازات الدموية توقيتات معينة» ولكنها مع ذلك تبقى شرعية، وإذ يصح مطالبتها بأن تكون مساوية في إمكانياتها وتسليحها لما هو لدى من تقاومه وأن يحسب ذلك على أساس عدد الضحايا مع عدم تأكيد أن المسئولية الأولى عنهم وعن دمائهم تقع على من يحتل ويقمع ويقتل ويدمر ثم يغسل يديه ويدعى البراءة.
أقول بينما الأمر كذلك فإن بعضنا يبحث عن معارك جانبية فيتحدث عن حروب السنة والشيعة، وعن معارك الفرس والعرب، وحتى تركيا التي غضب رئيس وزرائها من افتراءات رئيس إسرائيل فانسحب لأسباب موضوعية أو شكلية أو إدارية كما قالوا، وهو لا يهم أصبحت لأسباب لا أفهمها محلا لهجوم فيه كثير من الشطط إلى درجة تسميتها حليفة إسرائيل، وكأننا وضعناها في قالب لا يزيد له ـ حتى إذا كان صحيحا ـ أن يتغير.
وهذا موقف غريب يتنافى مع حرص الرئيس مبارك على الحوار مع تركيا باعتبارها قوة نستطيع أن نستفيد منها مهما حدث أحيانا في المواقف من اختلاف. يجرنا هذا إلى الحوار مع إيران الذى قرر الرئيس أوباما أن يبدأه، والذي علينا، فيما أتصور، أن نستأنفه درءا على الأقل للشبهات أو منعا لأخطار قد نراها وقد نتصور بعضها؛ وأنا هنا لا أنزه إيران عن الأهواء والأطماع وربما من الأوهام، ولكنى أدعى أن هذا شأن دول كثيرة لا يمنع من أن نتحاور معها، لنحدد إطارًا لعلاقات سليمة توضح الخطوط الحمراء بدقة مما يتيح بأن نغلّب ما قد يمكن أن يكون إيجابيا ونتجنب ما هو سلبي.
فالعلاقات الدولية لا تقوم بين ملائكة، والمصالح لا تنبع بالضرورة من المحبة، أو الاستلطاف، بل هي نتاج حساب دقيق لما لكل موقف وما عليه تحقيقا لمصالح مصر، التي نحرص عليها جميعا، ولأمنها القومي الذي لا ينفصل من جوانب كثيرة -بل هي أكثر الجوانب- عن الأمن القومي للمنطقة التي نعيش فيها ويتأثر بها سلبا أو إيجابا. لكن في النهاية، فإن الأمر لنا والقرار قرارنا يستند إلى الحقائق لا الأوهام، والوقائع لا الانطباعات، والمصالح الحقيقية لا الأساطير التي لا يراد لها أن تموت لأغراض في نفس كثير من «اليعاقبة».