نشرت مدونة «aeon» مقالا للكاتبة الصحفية أليس سو حول وضع حلول لمشكلة الطائفية التى تعانى منها العراق، وترفض الكاتبة حل تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات «سنة وشيعة وأكراد» باعتباره ليس حلا فعالا وإنما الحل الذى سيؤدى إلى نتائج طويلة الأمد يتمثل فى حل مشكلات الفساد ووجود حكومة مركزية قوية تعمل لصالح جميع الطوائف المختلفة.
منذ أن دمر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) قرية كرملش العراقية فى عام 2014، غادر ما لا يقل عن 20 إلى 30 فى المائة من العائلات المسيحية فى القرية العراق بالكامل، ووفقا لمصادر ذكرت أن الرقم يصل إلى 80 فى المائة. وفى عام 2016 تم تحرير هذه القرية وعاد البعض إلى ديارهم ولكنهم وجدوا أن منازلهم قد أحرقت ونهبت. ومازالت تلك القرية تعانى من الإهمال الشديد حيث تعمل الكهرباء والماء بشكل متقطع فضلا عن عدم وجود تعليم رسمى وضآلة فرص العمل.
بعد ما يقرب من عام من تحرير مدينة الموصل العراقية والمناطق المحيطة بها رسميا من داعش، عاد عدد قليل من الأقليات العرقية والدينية. ومن هنا يدور الجدل حول كيفية حماية تلك الأقليات المتبقية فى العراق وخاصة المسيحيين. ترتبط هذه المسألة المعاصرة بحوار طويل الأمد بين العلماء وصانعى السياسات حول بناء الأمة والقومية: هل تستطيع الدول الحفاظ على الاستقرار والتماسك على المدى الطويل على الرغم من وجود هويات عرقية ودينية متعددة؟
إن البعض يضع حلولا لهذه المشكلة تتمثل فى «الانفصال» باعتبارها أحد الحلول التى توفر الحماية. وبالتطبيق على الحالة العراقية، اقترح نائب الرئيس الأمريكى السابق «جو بايدن» والكاتب المتخصص فى السياسة الخارجية «ليزى جليب» فى مقالة نشرت بصحيفة نيويورك تايمز عام 2006 حلا للتطهير العرقى فى العراق يتمثل فى إنشاء نظام فيدرالى، أى من خلال تقسيم العراق إلى ثلاث مناطق كردية وسنية وشيعية تتمتع بقدر كبير من الحكم الذاتى، لكل منها قوانينها الخاصة وقواتها الإدارية والأمنية. وفى عام 2016 كتب «مارك فايفل» ــ مستشار الأمن القومى السابق لجورج بوش ــ فى مجلة تايم أن بايدن كان على حق، حيث يجب إعطاء العرب السنة «منطقة حكم ذاتى» فى العراق كحافز لمحاربة داعش.
تكمن المشكلة فى هذا النوع من الحلول فى أنها بنيت على إدراك المستشرقين للعراق بأنه ممزق بطبيعته مع الصراعات البدائية، وهى صورة تم تضخيمها من خلال تصوير وسائل الإعلام الغربية للعراق منذ الغزو الأمريكى عام 2003. ولقد أغفل حل «التقسيم» رغبة العراقيين أنفسهم بما فى ذلك «الأقليات»، ومن هنا يأتى السؤال: هل سيعمل الانفصال على الحد من العنف العرقى والدينى؟
***
الطائفية منتشرة بشكل واضح فى العراق؛ فيمكنك رؤية ذلك من خلال الحديث مع الناجين من أعمال العنف سواء كانوا ممن استهدفهم تنظيم داعش أو مدنيين شيعة الذين استهدفوا من قبل المسلحون السنة أو المدنيين السنة الذين تعرضوا للتعذيب على يد الميليشيات الشيعية، أو الأكراد الذين هاجمهم العرب، أو العرب المحتجزون من قبل الأكراد، أو التركمان واليزيديين والأقليات الأخرى الذين يتعرضون للتطهير العرقى.
إن التأكيد على إعادة رسم الحدود تمثل إشكالية لعدة أسباب منها: أن اتفاقية سايكس بيكو لم تحدد حدود العراق فعليا، حيث كانت حدود المنطقة محل نزاع وتحددت تدريجيا خلال السنوات التى أعقبت الحرب العالمية الأولى، مع المفاوضات والصراعات على السلطة والتمرد ومكافحة التمرد التى غالبا ما شملت جهات محلية تتحدى الخطط الأوروبية. الخرائط العثمانية حددت بالفعل المحافظات بما فى ذلك البصرة وبغداد فى الجنوب باسم «العراق العربى». كان اسم «العراق» والشعور بالقومية العراقية موجودين بالفعل فى أواخر العهد العثمانى، ومن ثم فإن الخريطة النهائية كانت بعيدة عما تخيلته القوى الأوروبية فى البداية.
على الأرض اليوم، تتحدث الأقليات عن عدم الثقة فى مصطلح «الطائفية». ومع ذلك فإنهم يعبرون عن حاجتهم للحماية من خلال مفردات مثل اختلال توازن القوى والمؤسسات غير المستقرة وسيادة القانون الضعيفة. وتوضح الكاتبة أنه عندما ذهبت إلى قرقوش ــ إحدى أكبر المدن المسيحية فى العراق ــ كانت أعمال إعادة البناء بالمدينة تجرى، ومع ذلك، فإن نحو 40 % فقط من المسيحيين عادوا، وذلك وفقا لما ذكره لويس ماركوس أيوب ــ عضو مجلس المدينة ورئيس منظمة حقوقية مقرها فى نينوى.
واستطرد قائلا: «إنه من أجل إعادة المسيحيين الآخرين إلى قرقوش، تحتاج المنطقة إلى قوات أمن محلية يمكن أن يثق بها السكان». ويعتقد أن القوى المسيحية ليست قوية بما يكفى للدفاع عن نفسها، فى حين أن القوات الكردية والعراقية لا تهتم بالأقليات. ليست لدينا ثقة فى الحكومة العراقية أو الحكومة الإقليمية الكردية.
ووجهت الكاتبة سؤالا له حول ما إذا كان يعنى أن على المسيحيين إقامة دولة مستقلة، فأوضح: «لا أريد أن تكون هذه منطقة مسيحية، هناك مسلمون وأيزيديون». وزعم أن «المشكلة الأساسية والجوهرية هى سياسية وليست اجتماعية. فالمشكلة هى أن المسيحيين فى قرقوش لا يستطيعون التوافق مع الشيعة أو العرب السنة أو الأكراد». وقال إن الهدف من تأسيس الأمن المحلى ليس الانفصال عن العراق، بل لجعل نينوى آمنة بما يكفى حتى يبقى المسيحيون.
***
إن حل تقسيم العراق يعود إلى المفهوم العرقى القديم للدولة الذى خلفه التاريخ. إن الصخب الغربى لتطبيق هذه الأطر على العراق وسوريا اليوم يذكرنا بمعاملة الدول العظمى لأوروبا الشرقية فى فترة ما بين الحربين: المتعالية والمستشرقة وغير الفعالة فى نهاية المطاف.
التقسيم لن يحمى الأقليات فى العراق لأنه يعالج القضايا الخاطئة وهى: الحدود والتنوع العرقى. ومن ثم فإن هذا الحل يتجاهل الدوافع الحقيقية للصراع فى العراق، التى حددها العلماء والعراقيون أنفسهم والتى تتمثل فى: وجود دولة مركزية ضعيفة، فساد مستشرٍ، الوصول غير المتكافئ إلى الموارد، إرث حملات صدام حسين السلطوية، ووجود نظام سياسى طائفى.
كثير من العراقيين يشعرون بالحنين إلى الأيام التى كانت فيها الدولة قوية ومستقرة. ولكن المرة الأخيرة التى كان العراق قويا ومستقرا فى عهد صدام حسين، ولكنه ركز فى حكمه على العرب، والذى أودى بحياة مئات الآلاف من العراقيين، بما فى ذلك الحملات التى استهدفت الأكراد والأقليات الأخرى بشكل واضح. لكن هذا لا يقلل من حقيقة أن المشكلة الرئيسية فى العراق هى دولة مبنية على نظام طائفى، واستخدام العنف كقوة قسرية، ووجود الأحزاب الطائفية كآلية للتوزيع. وبالتالى لحماية الأقليات فى العراق، فإن الحل لا يتمثل فى مزيد من الانقسامات بل فى المركزية والإصلاح الهيكلى.
لقد أحدثت الانتخابات العراقية الأخيرة، وهى الأولى منذ التحرير من داعش، زيادة فى التحالفات بين الطوائف المختلفة. وهذا يعكس الجوع لحكم غير طائفى. ويقوم الفائزون بالانتخابات بما فعله كل ائتلاف حاكم منذ عام 2003. وهذا يعنى وجود حكومة يشارك فيها الجميع، دون وجود اختلافات سياسية بين الأحزاب المختلفة. وبالتالى يأتى السؤال هنا من الذى يحصل على الوزارات؟، ومن الذى يحصل على أى قطعة من الكعكة؟
***
وعموما، تشير الدراسات الحديثة إلى أن التقسيم العرقى لا يحمى الأقليات بشكل أفضل. ففى دراسة أجراها كل من نيكولاس سامبانيس وجوناه شولهوفر ــ فول من جامعة ييل، وفقا لاستخدام بيانات جيوبوليتيكة، أكدت أن التقسيم لا يؤدى إلى الاستقرار بعد اندلاع الصراعات. أى إن الدول التى يتم تقسيمها بعد الحرب الأهلية معرضة لاندلاع الحرب بها مرة أخرى.
أما بالنسبة إلى الافتراض القائل إن التنوع العرقى يؤدى إلى الصراعات. ففى دراسة أجريت عام 2003 حول العرق والتمرد والحرب الأهلية، وجد جيمس فيرون وديفيد لايتين من جامعة ستانفورد أن الدول المتنوعة عرقيا ودينيا ليسوا أكثر عرضة للحرب الأهلية من غيرهم. وإنما الفقر والنمو البطىء والدول الضعيفة هى العوامل التى تخلق الظروف للتمرد وتجعل النزاع الأهلى أكثر احتمالا. ووجدت دراسة أخرى قام بها لارس إيريك سيدمان فى زيورخ، وأندرياس فيمر وبريان مين من جامعة كاليفورنيا فى لوس أنجلوس، أن الجماعات العرقية ستتحول إلى جماعة من المتمردين عندما يتم استبعادهم عمدا من سلطة الدولة، خاصة إذا كان لديهم قدرة أكبر على التعبئة، وإذا كانوا قد عانوا من صراع سابق. من الواضح أن منطق الصراع الطائفى يتجاوز بكثير الانقسامات القبلية أو الدينية القديمة.
ختاما توضح الكاتبة أنه بدلا من إخراج الأقليات من النظام العراقى والعودة إلى النموذج الأبوى للحرب، هناك طريقة أطول أجلا وأكثر فعالية لحماية الأقليات ألا وهى معالجة مشكلات اختلال توازن القوى والفساد والأمن وسيادة القانون. إن الطائفية العراقية ليست مشكلة قبلية متأصلة وقديمة، ومعالجة أقليات العراق من خلال تلك العدسة من المرجح أن تزيد من سوء وضعهم.
إنها مقاربة استعمارية فى الأساس، والتى ترى أن المسيحيين والمسلمين واليزيديين يجب أن يعيشوا فى مجتمعات منفصلة. والحلول الأكثر استدامة ودقة هى نفسها ما يمكن عمله فى الديمقراطيات الغربية: حماية الأقليات من خلال التكامل وليس الانفصال؛ معالجة انتهاكات حقوق الإنسان من خلال دعم المواطنة الفردية المتساوية؛ الاستجابة لنظام ضعيف وهش من خلال إصلاح مشاكله الهيكلية، وليس عن طريق إخراج الأفراد منه بشكل كامل. وكما قال للكاتبة زعيم المجتمع الأيزيدى مراد إسماعيل: «إذا كان الأفراد آمنين، فلن تكون هناك طائفية».
إعداد: زينب حسنى عز الدين
النص الأصلى: