نشرت مدونة ديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتبة مهى يحيى، تقول فيه أن دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل ساهمت فى فضح ازدواجية النظام الدولى ودعمه لجرائم إسرائيل، كذلك ترى الكاتبة أن هذه الدعوى ستؤثر سلبا على سمعة إسرائيل بغض النظر عن نتيجة الحكم الذى سيصدر عن محكمة العدل الدولية... نعرض من المقال ما يلى.
بغض النظر عن نتيجة الحكم الذى سيصدر عن محكمة العدل الدولية فى لاهاى، ألقت الدعوى التى رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل استنادا إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الإبادة الجماعية تبعات كبرى على إسرائيل والنظام الدولى على حد سواء.
تعرف هذه الاتفاقية الإبادة الجماعية بأنها ارتكاب أى من الأفعال التالية بقصد التدمير الكلى أو الجزئى لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، ليس فقط عن طريق قتل أعضاء من الجماعة، بل أيضا من خلال «إلحاق أذى جسدى أو نفسى خطير بأعضاء من الجماعة؛ أو إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادى كليا أو جزئيا؛ أو فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة؛ أو نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى». وقد صاغ مصطلح «الإبادة» محام يهودى بولندى يدعى رافاييل ليمكين فى أعقاب الهولوكوست (محرقة اليهود) . ترى جنوب أفريقيا أن الهجمات التى شنتها إسرائيل على الفلسطينيين فى غزة تكشف عن نيتها بارتكاب إبادة جماعية. وتطرقت القضية إلى «نمط واضح من السلوك»، على حد تعبير المحامى الجنوب أفريقى تيمبيكا نغوكايتوبى، أدى إلى إلحاق دمار هائل بمناطق واسعة من غزة وأسفر عن مقتل أكثر من 24,000 من السكان المدنيين، 40 فى المئة منهم من الأطفال، وإصابة 60,000 شخص، ناهيك عن الآلاف الذين ما زالوا فى عداد المفقودين. إضافة إلى ذلك، يواجه سكان غزة أزمة صحية حادة، ويقفون «على حافة المجاعة»، وفقا لسيندى ماكين، مديرة برنامج الأغذية العالمى. ومنذ بدء الجولة الراهنة من الصراع، لم تتورع إسرائيل عن شن هجمات مدمرة على الجامعات والمستشفيات والمدارس والكنائس والمحاكم وحتى مبنى الأرشيف المركزى فى غزة. لذا لا تستطيع إسرائيل، بصفتها قوة احتلال، الادعاء بأن ممارساتها تندرج فى إطار الدفاع عن النفس، وحتى لو زعمت ذلك، تعتبر جنوب أفريقيا أن حجم الضرر الذى ألحقته إسرائيل بالفلسطينيين لا يمكن تبريره تحت أى ظرف. هذا وتتمثل «الميزة الاستثنائية» لهذه القضية فى أن التصريحات التحريضية التى أدلى بها قادة إسرائيليون تشير إلى وجود النية بارتكاب إبادة جماعية، وقد ردد هذه الشهادات والمفردات جنود إسرائيليون على الأرض. وتابعت مرافعة جنوب أفريقيا بأن الهجمات على غزة متجذرة فى الاعتقاد الإسرائيلى بأن العدو ليس فقط الجناح العسكرى لحماس، بل أيضا نسيج حياة المدنيين فى غزة، وهو ما تسعى إسرائيل إلى تدميره. ولا يأتى هذا الخطاب من هوامش المجتمع الإسرائيلى، بل يندرج اليوم فى صلب سياسة الدولة.
ونظرا إلى أن صدور الحكم فى هذه القضية قد يستغرق سنوات، طلبت جنوب أفريقيا من محكمة العدل الدولية اتخاذ تدابير مؤقتة لوقف إراقة الدماء ومنع خطر حدوث إبادة جماعية.
• • •
لا ينبغى الاستهانة برمزية أن جنوب أفريقيا تحديدا هى التى رفعت هذه الدعوى، نظرا إلى تجربتها السابقة وإدراكها العميق لعواقب تأخر الاستجابة الدولية لانتهاكات حقوق الإنسان. وقد أوضحت فى قضيتها أمام محكمة العدل الدولية أن انتهاكات إسرائيل المتزايدة لحقوق الفلسطينيين تندرج ضمن ما تعتبره جنوب أفريقيا نظام «الأبرتهايد» (الفصل العنصرى)، مصحوبة بتقاعس المجتمع الدولى، يسمحان لإسرائيل بالاستمرار فى ارتكاب المذابح فى غزة والإفلات من العقاب.
ولم تنسَ جنوب أفريقيا أيضا تواطؤ إسرائيل مع نظام الأبرتهايد الذى حكمها سابقا، وإبرامهما «تحالفا غير معلن» خلال فترة الحرب الباردة. وتشير هذه العبارة (The Unspoken Alliance) إلى عنوان كتاب وضعه ساشا بولاكو ــ سورانسكى عن العلاقات السرية التى جمعت بين دولة تأسست بعد الهولوكوست ونظام قادته الأقلية الأفريكانية القومية التى دعمت ألمانيا النازية فى الحرب العالمية الثانية. وارتكزت هذه العلاقة على تعاون أمنى سرى دام لعقود، وعلى «إيديولوجيا البقاء للأقليات» على حد تعبير بولاكو ــ سورانسكى، والتى حرصت على تصوير هاتين الدولتين على أنهما امتداد للحضارة الأوروبية ويهددهما «البرابرة على الأبواب». وقد انتهت هذه العلاقة مع إلغاء نظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا.
كذلك، سلط تضامن جنوب أفريقيا مع الفلسطينيين الضوء على الشرخ القائم بين بعض دول الغرب وسائر دول العالم. وأعاد أيضا فتح صفحة من صفحات التاريخ الاستعمارى الغربى، حيث تشكل أحداث الهولوكوست بحق اليهود فى الدول الغربية أساسا ذروة العنف الذى مارسه الغرب ضد شعوب غير غربية، نتيجة الترويج لنظريات التفوق العرقى والسياسات الأحيائية (biopolitics) والتمادى فى العنف. فى هذا السياق، حمل انتقاد ناميبيا للموقف الألمانى الداعم لإسرائيل أمام محكمة العدل الدولية له دلالات كثيرة. فقد ذكرت الحكومة الناميبية أن أول إبادة جماعية فى القرن العشرين ارتكبتها ألمانيا على الأراضى الناميبية بين العامين 1904 و1908، وراح ضحيتها 70 ألفا من شعبى هيريرو وناما. وتابع بيان ناميبيا أن «ألمانيا لا تستطيع التعبير عن التزامها الأخلاقى باتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة الإبادة الجماعية، بما فى ذلك التكفير عن ذنبها فى الإبادة التى ارتكبتها بحق ناميبيا، فيما تدعم ما يعادل الهولوكوست والإبادة الجماعية فى غزة».
• • •
فى ظل هذه الأجواء المشحونة، ألقت قضية جنوب إفريقيا بثقلها أيضا على النظام الدولى الذى نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا تبين أن الدول الكبرى تعتمد معايير مزدوجة دفاعا عن حلفائها، فسيقوض ذلك أركان مفهوم النظام الدولى. وكانت هذه تحديدا الحجة التى قدمها الخبير القانونى الألمانى ستيفان تالمون، حين انتقد تدخل بلاده لدعم إسرائيل فى محكمة العدل الدولية بأنه قرار «متسرع» و«ملىء بالدوافع السياسية»، محذرا من أن هذه المقاربة قد ترغم برلين على تبنى تفسير ضيق لمفهوم النية بارتكاب إبادة، على خلاف ذاك الذى اعتمدته فى دعوى سابقة رفعتها جامبيا ضد ميانمار أمام محكمة العدل الدولية. إذا حدث ذلك، فسيعتبره الكثير من دول الشطر الجنوبى من العالم دليلا على المراوغة والكيل بمكيالين فى تقدير قيمة الحياة الإنسانية.
كذلك، ساهمت قضية غزة أمام محكمة العدل الدولية فى تعرية أسطورة تأسيس إسرائيل. فما يعرفه كثر فى الغرب أن إسرائيل تأسست فى أعقاب الهولوكوست بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، فى مرحلة اتسمت بمساعٍ حثيثة من أجل إرساء ضوابط ومعايير دولية لمنع تكرار جرائم بهذا الحجم. وكما جادل الكاتب البريطانى تونى جت فى مقال لصحيفة هاآرتس فى العام 2006، دفعت هذه العوامل إسرائيل إلى التشديد لفترة طويلة على «عزلتها وفرادتها، وادعائها بأنها البطل والضحية فى آن، فى إحالة إلى المعركة التوراتية بين داود وجليات».
• • •
أدت هذه العوامل مجتمعة إلى تشكيل حالة الاستثناء الإسرائيلى انطلاقا من معاناة الشعب اليهودى. وسمح ذلك للقادة الإسرائيليين بتجاهل مسئوليتهم عن الانتهاكات المستمرة ضد الشعب الفلسطينى، فى ظل قبول جزء كبير من المجتمع الدولى بهذا الوضع. فقد تغاضت القوى السياسية العالمية الكبرى فى الغالب عن الاحتلال الطويل الأمد للأراضى الفلسطينية وممارسات إسرائيل الرامية إلى إخضاع الفلسطينيين فى غزة والضفة الغربية والقدس، بدءا بإجراءات حظر التجول ونقاط التفتيش والطرق الالتفافية، ومرورا بالاستيلاء على الأراضى والاعتقالات والاحتجازات التعسفية، ووصولا إلى هدم المنازل والتهجير وأعمال العنف والاغتيالات الموجهة.
ويقع اليوم التدمير الوحشى لقطاع غزة والخسائر المروعة فى الأرواح على مرأى مئات الملايين من الأشخاص، وقد شارك بعضهم فى مظاهرات حاشدة فى عواصم العالم للمطالبة بوقف فورى لإطلاق النار. وهكذا، تداعت الصورة التى صاغتها إسرائيل بعناية عن دولة ليبرالية بناها الناجون من إحدى أفظع الجرائم التى عرفتها البشرية. وعلى الرغم من شراسة هجمات السابع من أكتوبر، أظهر حجم الموت والدمار فى غزة مجددا أن الفلسطينيين هم ضحايا. وبات كثر حول العالم ينظرون إلى احتلال إسرائيل واستيطانها للأراضى الفلسطينية، وسياساتها القائمة على الفصل العنصرى التى أصبح خبراء قانونيون إسرائيليون يطلقون عليها هذه التسمية أيضا، على أنها بقايا مرحلة استعمارية غابرة.
مهما كانت نتيجة الحكم الذى سيصدر عن محكمة العدل الدولية، يبدو أن ارتكابات إسرائيل فى قطاع غزة والتهمة التى وجهتها إليها جنوب أفريقيا، قد ألحقتا ضررا بالغا بسمعتها. من الآن وصاعدا، لم يعد سهلا ربما على العالم التغاضى عن انتهاكات دولة كثيرا ما بقيت فوق المساءلة والمحاسبة.
النص الأصلي