حكايات في زمن الوباء.. من حكايات موقع "المنصة" عن يوميات الأطقم الطبية في العزل
شغلى فى التمريض مش بيوفر لى فرص كبيرة إنى أدخل تجارب مختلفة وأتعلم وأجرّب وأتعرف على مهارات جديدة. بعد انتشار الكورونا فى مصر كنت بأتابع أخبار الوضع الصحى بحكم شغلى، بعدها بكام شهر، دكتور زميل قال لى «كنتِ عاوزة تروحى للكورونا، أهى جاتلك لحد عندك»، عرفت منه أن المستشفى بتاعتنا «مستشفى عزل تمى الأمديد ــ محافظة الدقهلية» هتتاخد عزل لحالات كورونا.
كل الطقم الطبى هنا اشتغل مع بعض علشان نِخلى المستشفى من الحالات العادية ونجهزها علشان تستقبل مصابين بالفيروس ونجهّز غرف العزل.
أنا زوجة وأم لطفلين، قبل ما آخد قرار العزل اتكلمت مع زوجى، علشان نقدر نوفر مكان آمن للولاد يقعدوا فيه، خصوصًا إنى هأخرج من 14 يوم عزل صحى فى المستشفى، وبعدها أقضى 14 يوم عزل ذاتى فى البيت، علشان ما أنقلهمش عدوى لا قدر الله. أول ما قولت لزوجى كان خايف جدًا وقلقان، بس قال لى ده دورك ولو ماروحتيش وخوفنا مين هيسد. كلامه شجعنى وحمّسنى زيادة، وروحت سجلت اسمى فى العزل مع باقى زمايلى.
قعدنا أسبوع أول مارس بناخد تدريبات من فريق مكافحة العدوى: إزاى نلبس البدلة وإزاى نعقم نفسنا، ونعمل سيناريوهات للتعامل مع الحالات، ونتعرف على أدوارنا الجديدة ومهماتنا.
كنت متحمسة قوى وأنا داخلة وعارفة إننا هنقابل ضغط عمل رهيب. كمان كنت عاملة حسابى إن احتمال خروجى من هنا سليمة من غير عدوى ما يزيدش عن 1% بسبب كثرة الحالات اللى معانا وحالتهم المتدهورة.
***
هنا كأننا بنحارب سراب، كل مرة يفاجئنا بمصيبة شكل. بعد أول كام يوم بدأنا نحبط بسبب الحالات اللى بتتدهور واللى تتوفى من غير أى سبب، وحالات كتير كنا متوقعين خروجهم وإنهم خلاص بيتحسنوا، بس فجأة كانوا بيموتوا.
فى ست عمرى ما هانساها كانت كويسة وبتاخد جلسة الأكسجين بتاعتها فجأة راسها مالت. بنفوّقها لقيناها ماتت. يومها كنت خايفة ومخضوضة وحاسة بإحباط وألم أننا ما لحقنهاش. وفى يوم مرة واحدة أربع حالات الأكسيجين بتاعهم نزل وماتوا فى نفس اللحظة، كل الطقم كان فى العناية بنحاول نلحق أى حد منهم، كأننا فى فيلم رعب وبنحارب الموت المستخبى جنبنا وقريب قوى مننا وإحنا مش شايفينه.
طبعًا بنعيش فى العزل مشاعر ومواقف ملخبطة فى نفس الوقت، حالة وفاة وفى نفس الوقت حالة بتتحسن وتخرج.
بنحاول دايما هنا فى العزل نهوّن على نفسنا وعلى المرضى. الوضع صعب وإنك تقعدى أيام مابتشوفيش الشارع ولا بتشوفى ناس غير ناس لابسين بِدَل صفرا وطبقات فوق طبقات بتعزلك عن اللى قدامك وسامعين صوتك من الكمامة والخوذة بالعافية؛ كل ده بيأثّر على النفسية، وبيخوّف المرضى على نفسهم، وبيحسوا إن حالتهم خطر.
جمعنا من بعض وجبنا عصاير وشيكولاتة ومخبوزات وبقينا ننزل نوزع على الحالات ونطمنهم، ونحاول نخلق وقت يفرّحنا ونفتكره بيننا وبين بعض خصوصًا إن ممنوع التجمعات وممنوع ناكل مع بعض.
***
فى العزل مش مهددين بس بالكورونا، لكن ممكن ننصاب بأمراض تانية. أغلبنا جاله احتباس فى البول لإننا بنقعد فوق الـ 8 ساعات بالبدلة، ودى صعب نقلعها ونروح الحمام. طالما لبستيها خلاص لازم تكملى، ده غير طبعًا أمراض الحساسية اللى بتصيبنا من لبس 9 طبقات فوق بعض، وكدمات فى وشنا من الكمامة والخوذة باستمرار، ودا علشان نحافظ على مستلزمات الوقاية، لأنها مش متوافرة بكميات كبيرة، وأحيانًا لو مش متوافر لبس عزل كامل، البنات (الممرضات) كانت بتخاف تدخل تتعامل مع المرضى ودا حقهم بصراحة يخافوا على حياتهم، وهم شايفين الفيروس بيعمل إيه فى الحالات.
كل اللى عشناه جوه العزل ومواجهة الموت كوم، ومرحلة الخروج دى كوم تانى خالص. كنت بأجهز نفسى علشان أخرج، ولما خرجت ورجعت بيتى كانت أصعب فترة لأنى قضيت 14 يوم كاملين لوحدى. لا عارفة أشوف ولادى ولا أتطمن عليهم بعد الغياب ده كله، وخايفة أنزل الشارع أكون حاملة للفيروس وأنا مش عارفة وأنقله لحد. حماتى ساكنة معايا فى نفس العمارة، لو محتاجة حاجة كنت بخليها تحطها على الباب وتنزل. كانت تقول لى طيب عاوزة أتطمن عليكى، فكنت بأحاول أطمنها من ورا الباب إنى بخير. بس خرجت منهكة جدًا ولا قادرة أتكلم أو أحكى أو أتعامل مع حد، مرهقة نفسيًا من اللى عشته وشوفته ولما خرجت مافيش أى تقدير معنوى أو مادى.
أنا من الطاقم الأساسى فى المستشفى، الفريق الموجود فى الأسبوعين دول من أماكن مختلفة، فأكيد لما هايقضوا مدتهم هيكلمونا علشان نرجع تانى، بس أنا مش حابة أكرر التجربة دى تانى بعد كل اللى شوفته، بس طبعًا مش هاقدر أستغنى عن مصدر رزقى، إحنا خرجنا من 10 أيام أهو وهم بيضغطوا علينا عشان يرجعونا، بس بنرفض وبنقول لهم عاوزين على الأقل مستحقاتنا عشان نحس بتقدير، وإن لينا حقوق.
النص الأصلى