كان ركوب مترو مصر الجديدة واحدا من أمتع رحلات جيلها فى الستينيات وأكثرها إثارة وبهجة. اعتادت أن تستقل المترو من محطة رمسيس إلى محطة سفير بين وقت وآخر لزيارة صديق حميم لأسرتها يقيم فى فيللا متواضعة، لكن وارفة، فى حى سفير بضاحية مصر الجديدة. عندما كان يبلغها الأب أو الأم بالخبر السعيد عشية يوم الأحد إجازتها الأسبوعية لم تكن تنام ليلتها، كانت تأوى لفراشها وتطلق لخيالها العنان.. غدا تركب المترو، غدا تذهب إلى هذا المجهول البعيد المسمى مصر الجديدة، غدا تلعب فى حديقة أونكل أحمد ولو وحدها فأولاده يكبرونها سنا وكلبهم مسل لكنه غير ودود.. غدا.. غدا، فمتى يا ترى يأتى «غدا»؟
لم تكن المسافة بين مصر القديمة، بالمعنى المجازى وليس بالمعنى الحرفى للكلمة، وبين مصر الجديدة طويلة، فقد كان المترو يقطعها فيما لا يزيد على خمس وعشرين دقيقة، لكن هذه المسافة كانت كافية لتنقل سكان مصر القديمة من عالم إلى آخر، عالم فضاءاته أوسع، وهدوءه أجمل، وأشجاره أنضر، وسكانه من بقايا الأجانب خصوصا الأرمن أكثر، وتنوع كنائسه ما بين أرثوذكسية وكاثوليكية ولاحقا إنجيلية لا مزيد عليه. فهو إذن عالم مختلف، مختلف حتى عن أحياء مصر القديمة الأرستقراطية كالزمالك وجاردن سيتى، دع عنك طبعا أحياءها الشعبية.
الآن تغير وجه مصر الجديدة بشدة، انتقل إليها الزحام والضوضاء والتصحر، وانتقل منها أكثر الجاليات الأجنبية، صارت مصر الجديدة مرآة عاكسة لواقع المجتمع وأصبحت هى ومصر القديمة صنوين. ففى غضون أشهر قليلة شهدت ضاحية مصر الجديدة واقعتين داميتين كاشفتين عن حجم التغير الذى أصاب الحى وحل بأهله. البطل فى الواقعتين رجل فى أواسط العمر، مسلم فى الحالة الأولى ومسيحى فى الحالة الثانية، مهندس فى الأولى ورجل أعمال متوسط التعليم فى الثانية، والرجلان متزوجان ولهما أسرتان محدودتا العدد قوامها زوجة وابن وابنة. قرر الأول فى لحظة جنون أن يقتل أسرته ليريحها من الفقر الذى يتربص بها بعد أن فقد مليون جنيه من أمواله فى مضاربات البورصة، وانتابت الثانى الحالة نفسها بعد أن كسدت أعماله فقتل أسرته خشية إملاق. كانت أداة الجريمة فى الحالة الأولى بلطة وفى الثانية مسدس لكن النتيجة كانت واحدة، لم ينجُ أى من أفراد الأسرة، مع فارق بسيط هو أن الانتحار البطىء للمهندس كسب له بضعة أيام على وش الدنيا أما رجل الأعمال فقضى فى موقع الحادث فورا.
الجريمتان إفراز المجتمع الرأسمالى الذى نعيش فيه، حيث تتزايد شهوة الاستهلاك، ولا يرتبط الثراء بالعمل المنتج، وتفقد المصادر التقليدية كالأسرة والتعليم والمنصب دورها فى إضفاء الوجاهة الاجتماعية لصاحبها ويحل محلها المال كمصدر رئيسى وأحيانا وحيد. وتَأمل هنا كيف قَدَر رب أسرة كذلك المهندس المسكين أن أصوله الثابتة كالشقة والسيارات والحلى لا يمكنها أن تُفرجَ كربه ليبدأ من جديد، وكيف اعتبر أن دخله ودخل ابنيه من أعمالهما لا تكفى لإبدالهم بعسرهم يسرا. لقد استكان صاحبنا للدخل السريع الذى يأتيه من ضربة حظ، حتى جاءت لحظة لم يحالفه الحظ فيها فطاش صوابه.
والجريمتان شاهدتان على أننا مسلمون ومسيحيون إفراز البيئة الاجتماعية نفسها بعشوائيتها وفسادها واستبدادها وتدينها الشكلى لا الفعلى، لذلك كان منطقيا أن يكون سلوكنا متقاربا. فى لحظة استبد رب الأسرة برأيه وقرر أن يحكم بالإعدام على أقرب الناس إليه، صادر على أملهم فى المستقبل واعتبر أنه أبصر منهم وأوعى وأنه يعلم ما لا يعلمون، ثم بعد ذلك يحدثونك عن الاستبداد السياسى، والحق أننا كلنا مستبدون، كلنا «م.س.ت.ب.د.و.ن». أما هؤلاء الذين يبحثون عن كل ما يفرق بين المصريين، فهاهما واقعتان تكشفان أننا مسلمون ومسيحيون فى الهم شرق. وكم كان الله لطيفا بنا فى ابتلائه بحيث جاءت جريمة المهندس شريف المشهود له بحسن الخلق سابقة على جريمة سامى الذى عُرفت عنه معاقرة الخمر، وإلا لخرج لك ألف صوت يقول: هو قتل لأنه سكير، الآن تُوجَهَ أصابع الاتهام لواقع الرجلين قبل أن توجه لهما.
تغيرت كثيرا مصر الجديدة كما تغير أهلها، ولم تعد الرحلة إليها ممتعة ولا عاد أحد يتهيأ لها، فها هى شوارعها تشهد اثنتين من أبشع الجرائم وأكثرها مأساوية، وتلك ظاهرة تحتاج تحليلا اجتماعيا نفسيا عميقا وسريعا ينقذ فلذات أكبادنا من لحظات جنوننا ويجنبهم قراراتنا المستبدة، فمن الصحيح أن قطع صلة الرحم له سوابقه فى أصل الخليقة منذ أضمر قابيل السوء لهابيل، لكن تواتر قتل الأرحام فى مدى زمنى متقارب وفى حيز مكانى واحد بالكيفية نفسها أو تكاد، هو أمر لا شك يدفع إلى الذهن سؤالا: يا ترى هل هى مجرد صدفة أن يحدث ما حدث فى ضاحية مصر الجديدة أم أن هذا هو ما بات يحدث الآن فى «مصرنا الجديدة»؟