نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتب عامر بساط يعرض فيه أربعة عناصر للأزمة الاقتصادية اللبنانية، والتى على الرغم من أن الاقتصاد اللبنانى يحاول التكيف الذاتى معها إلا أنها ستترك ندوبا لن تندمل... نعرض منه ما يلى:
تحولت أسوأ مخاوفنا إلى حقيقة. لم يكن من المستحيل التنبؤ بانفجار الأزمة الاقتصادية فى لبنان إذ إن الفراغ السياسى/الاقتصادى يولد نتائج وخيمة للغاية. لبنان اليوم يشهد سيناريو قاتما. فقد تعرض البلد لصدمات قوية فى حين أن أوجه الهشاشة حادة، بيد أن أزمته تُدار بشكل خاطئ. نتيجة لذلك، بات الاقتصاد يتكيف عضويا مع الواقع الجديد. لكن عواقب هذا التكيف «الذاتى» وخيمة. فقد بدأ الانهيار الاقتصادى يظهر جليا، ولن تندمل ندوب هذه المحنة قريبا.
قبل الغوص فى تفاصيل هذا التكيف التلقائى والهبوط الحاد للاقتصاد، إنه لأمر مستغرب إلى درجة الذهول أن الطبقة السياسية لم تحرك ساكنا لاحتواء الأزمة. ثمة ثلاثة تفسيرات محتملة لهذه اللامبالاة. أولا، الانعدام التام للكفاءة. والتفسير الثانى يتعلق ببيئة سياسية مستعصية يكاد يتعذر فيها التوصل إلى قرار جماعى، ولا سيما نظرا إلى حجم الخسائر التى ينبغى تقاسمها بين الأفرقاء. وثالثا، قد تُعزى هذه اللامبالاة إلى قرار واعٍ اتخذته الطبقة السياسية بعدم التحرك، نظرا إلى أن الانفجار يلقى بعبء الخسائر على كاهل المواطنين مما يتيح بالتالى صون المصالح الخاصة للسياسيين. بغض النظر عن التفسير الصحيح، تكمن المفارقة فى أن الإهمال السياسى ينذر بتحولات سياسية مُزلزلة قد تلقى بظلالها على الطبقة الحاكمة بذاتها.
للإضاءة على كيفية مباشرة الاقتصاد بالتكيف من تلقاء نفسه، سوف نتوقف عند العناصر الأربعة للأزمة الاقتصادية اللبنانية. لنبدأ أولا بميزان المدفوعات. لقد بلغ صافى حاجات لبنان التجارية بالدولار الأمريكى 12 مليارا فى العام 2019. وتقلصت هذه الحاجات إلى نحو 4 مليارات فى العام 2020، وهذا أمر جيد فى حد ذاته. لكن هذا التكيف يخبئ خلفه تدهورا بنسبة 50 فى المئة فى قيمة الواردات. وهذا التدهور ناجم بدوره عن الانهيار الكبير فى قيمة العملة والركود الشديد الذى حرم المجتمع من الدخل الضرورى لاستيراد السلع. بعبارة أخرى، يتكيف ميزان المدفوعات بالفعل مع الأزمة، لكن السبب الرئيسى هو اضمحلال إيرادات المجتمع وثرواته.
العنصر الثانى للأزمة هو تراكم الديون الطائلة فى القطاعَين العام والخاص، والتى بات من المستحيل تمويلها وخدمتها. سوف توصى جميع برامج التعافى طبعا بتقليص الديون إلى مستوى يستطيع الاقتصاد تحمله. ولكن يُفترَض بعملية خفض الاستدانة أن تتبع نهجا منظما يمكنه تحقيق التوازن بين مصالح المقرضين من جهة والمدينين من جهة أخرى. ولكن فى ظل غياب إدارة فعالة للأزمة، يجرى التعامل مع المديونية بطريقة بدائية تعنى فعليا تفشى حالات التخلف غير المنظم عن سداد الديون وإشهار الإفلاس.
القطاع المصرفى هو العنصر الثالث فى الأزمة الاقتصادية. فقد عملت المصارف طوال عقود على استقطاب الودائع ومن ثم إقراضها للدولة مما حول القطاع المصرفى إلى عملاق هائل لا يستطيع الاقتصاد تحمل حجمه. إضافة إلى ذلك، تسبب تخلف الدولة عن سداد الديون والركود الاقتصادى العميق بإفلاس القطاع. ومنذ ذلك الحين، باشر القطاع بالتقلص تلقائيا و«تنظيف» نفسه بنفسه. ومما لا شك فيه أن هذه العملية صحية فى جزء منها حيث إن قسما من المقترضين باع أصوله العقارية إلى مودعين آخرين واستخدم تلك الأموال لإطفاء ديونه.
ولكن ثمة أجزاء أخرى غير سليمة فى إطار عمليات توطيد القطاع المصرفى. وفى طليعتها ظاهرة السحوبات المالية الكبيرة فى محاولةٍ للالتفاف على القيود المفروضة على حركة الرساميل أو ما يُعرَف بالكابيتال كنترول. وتلك السحوبات تُموَل من احتياطى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية والذى يعانى من نزف مستمر. أما الظاهرة الثانية فتتمثل فيما يمارسه المودعون على أنفسهم من خلال قيامهم بسحب ودائعهم الدولارية ولكن بالليرة اللبنانية مقابل سعر صرف مصطنَع وغير حقيقى. وهذه «الليرلة» المفروضة بحكم الأمر الواقع تتسبب بانخفاض قيمة الودائع جراء التضخم. إذا يمكن القول إن ما يحصل فعليا هو عملية «تنظيف» القطاع المصرفى لنفسه. لكن مَن يتكبد الخسائر هم المودعون والاحتياطيات الأجنبية لمصرف لبنان وليس المساهمون فى المصارف.
والعنصر الرابع للأزمة هو القطاع العام. لطالما كانت الدولة اللبنانية عاجزة عن توليد عائدات أو ضبط الإنفاق. صحيح أن العائدات تدهورت خلال العام الماضى، لكن المفارقة هى أن الجانب المتعلق بالإنفاق شهد تحسنا. فالتضخم الذى يعكس فى حد ذاته سياسة نقدية متساهلة بشكل غير مسئول، أحدث تراجعا حادا فى القيمة الحقيقية للرواتب والمعاشات التقاعدية لموظفى الخدمة المدنية، وأسفر، على نطاق أوسع، عن انخفاض كبير فى الإنفاق العام على السلع والخدمات. وهنا أيضا، يجرى التعامل مع خطيئة أصلية عن طريق اللجوء إلى المواربة، والنتيجة للأسف هى إفقار الطبقة الوسطى والمجتمع ككل.
وفى هذا الصدد، يُتوقَع أن يتراجع الناتج المحلى الإجمالى للبنان فى العام 2020 وحده بنسبة 25 فى المئة. ويُتوقَع أيضا أن تنهار القدرة الشرائية للاقتصاد اللبنانى، عند قياسها بالدولار، بمقدار الثلثين. ويُسجل التضخم ارتفاعا بنسبة مقلقة تصل إلى 120 فى المائة. يترافق ذلك مع انتشار الفقر فى البلاد حيث يعجز نحو مليونَى شخص عن تأمين الاحتياجات الأساسية.
لكن ما تخفيه هذه الأرقام هو التداعيات البنيوية التى سيدوم أثرها فى المدى الطويل. فمن جهة أولى، يعانى الرأسمال البشرى من نزيف حاد بسبب الهجرة الكثيفة للأدمغة الشابة التى تغادر لبنان أو تسعى إلى المغادرة. وما يثير القلق بالقدر نفسه هو خسارة القدرات الإنتاجية الفعلية الناجمة عن إغلاق الشركات فى جميع أنحاء البلاد. أما مصدر القلق الأكبر فيتمثل فى التداعيات الأمنية التى يمكن أن تترتب عن الانفجار الاقتصادى. فقد شهد لبنان على مر التاريخ انقسامات مذهبية أدت فى أحيانٍ كثيرة إلى اندلاع صراعات عنيفة. ومن شأن الانهيار الاقتصادى أن يفتح الباب على مصراعيه أمام عودة العنف.
النص الأصلى