دمشق: أوضح صعود وسقوط مظاهرات الاحتجاج هنا مؤخرا أن السوريين يشتركون فى التوق إلى الكرامة الذى يجتاح العالم العربى؛ كما يوضح أيضا لماذا لم يشكل هذا المد من الغضب تهديدا للرئيس بشار الأسد حتى الآن؟.
وفيما يلى ما حدث فى 19 فبراير وفقا لما حكاه دبلوماسى غربى ومسئول سورى كل على حدة: أهان شرطى سائقا فى وسط مدينة دمشق؛ وعندما احتج الرجل، ضربه الشرطى بمعاونة آخرين. وذلك من قبيل المواجهات الخشنة مع السلطة التى كان العرب يبتلعونها، بمرارة ولكن بسلبية، حتى انفجر الغضب فى تونس ومصر.
وسرعان ما تجمع حشد من مئات الأشخاص فى الشارع وبدأوا الهتاف. وطبقا لما قاله دبلوماسى تابع أشرطة فيديو للحادث أن الشعارات تقول: «نحنا الشعب. الشعب السورى ما بينذل».
وقد سجل المشاركون فى الحشد لقطات فيديو للحدث بتليفوناتهم المحمولة ونقلوها إلى الإنترنت.
وكان الموقف متفجرا. ثم حدث أمر مثير، أظهر مدى متابعة السلطات للأحداث عن كثب: فقد وصل وزير الداخلية إلى المشهد بعد نصف ساعة من بدء الاحتجاج، واعتذر للرجل المضروب، وأخذه معه فى سيارته. ووبخ رجال الشرطة. وتفرق الحشد فى آخر الأمر، وبدأ بعضهم فى الهتاف للأسد، ربما بتشجيع رسمى.
وقامت الحكومة بتصرف معقول آخر: بدلا من محاولة قمع المعلومات حول الحدث (وهو ما لم يكن لينجح على أى حال) سمحت بتوزيع الفيديو بصورة واسعة على الإنترنت، وتشارك الناس الغضب من انتهاكات الشرطة، غير أن الغضب لا يبدو أنه تركز على الزعيم مثلما هو الحال فى تونس ومصر وليبيا واليمن.
وتمثل سوريا مفارقة فى هذا الموسم العربى للثورة. فلديها نظام استبدادى يسيطر عليه حزب البعث الفاسد، من مخلفات عصر الطغاة التى تتم إزاحتها فى العديد من البلدان الأخرى. لكن بشار الأسد، وهو شاب نسبيا فى الخامسة والأربعين، يلتحف براية المقاومة الشعبية ضد إسرائيل وأمريكا، لم يتأثر حتى الآن.
فهل تكون سوريا هى التالية؟ من المستحيل توقع ذلك، فى وقت ـ كما يقول المثل العربى «تمزق فيه لثام العار». وتعتمد الإجابة على قدرة نظام الأسد على إجراء إصلاحات ــ والتحرك بالسرعة التى تحرك بها قبل اسبوع استجابة لتلك المظاهرة.
ويرى الفرنسيون ــ الذين قد يعرفون هذا البلد أكثر من معظم الأجانب ـ أن الأسد آمن نسبيا. ويصف مسئول الأمر من منظور فرنسى: «احتمالات حدوث ثورة فى سوريا، منخفضة للغاية بالنسبة للبلدان الأخرى، فى المدى القصير إلى المتوسط».
وتجرى حاليا مناقشة مثيرة للاهتمام بين مستشارى الأسد، بشأن ما إذا كان ينبغى أن يسمح بالمزيد من الديمقراطية والانفتاح ــ الأمر الذى ادعى أنه يريده ــ أو إبقاء الضوابط المحكمة. ويرى الإصلاحيون أن التغيير سوف يعزز شعبية الأسد، فى حين تعارض المؤسسة الأمنية ذلك باعتبار أن التنازلات الآن ستكون دلالة ضعف ــ كما ستقوى الإخوان المسلمين.
وعلى الأسد أن يقرر فورا ما إذا كان سيسمح بأحزاب حقيقية ــ غير البعث وجبهاته المختلفة ــ لتتنافس فى الانتخابات هذا العام. فمن المقرر إجراء الانتخابات المحلية والبرلمانية هذا العام، والسؤال هو ما إذا كان ذلك سيكون اقتراعا حقيقيا مفتوحا أمام المرشحين والأحزاب، أم نسخة شكلية على غرار الاتحاد السوفييتى، كما كان الأمر فى الماضى. ومن المقرر أيضا أن يشهد هذا العام فرصة أخرى لإحداث هزة فى مؤتمر حزب البعث.
ويأمل الإصلاحيون أن يقوم الأسد بتعديل الدستور، بحيث لا يشترط حكم البعث، وإنما يسمح بمنافسة بين الأحزاب. ويقول إصلاحى سورى: «إذا كان لدينا أحزاب سياسية مختلفة، فسيكون ذلك جيدا للبعث، الذى يتباطأ نشاطه، ويتباعد عن الشعب».
ويمثل الفساد مسألة حساسة هنا أيضا. ويتعرض النظام للهجوم، لأن رامى مخلوف ابن عم الأسد هو صاحب الحصة المسيطرة فى شركة الهاتف المحمول المحظوظة سيراتيل. ويقول اثنان من الشخصيات المطلعة إن الأسد يبحث تخفيض حصته لإتاحة الفرصة للاستثمار الأجنبى. غير أن ذلك الإصلاح من شأنه أن يحدث صدعا داخل أسرته.
ويعكس الجدل داخل الدوائر المقربة من الأسد المعارك السياسية الأوسع نطاقا التى تعصف بالعالم العربى. وحتى الآن تمتلئ شوارع دمشق بالمتسوقين فى الأغلب وليس المتظاهرين. ولكن تجربة البلدان الأخرى طوال الشهرين الماضيين، توضح أن تأجيل الإصلاح أكثر من اللازم فى بلد ذات حزب واحد ــ مثل سوريا ــ ربما يكون خطأ فادحا.