التصعيد الخطير الأخير فى لبنان بين المحورين الإيرانى والسعودى، والذى يهدد بتمديد حروب الواسطة الدموية الإقليمية إلى أرض الأرز، كان الحلقة الأخيرة (أو بالأحرى حلقة أخرى) من حلقات الحرب المذهبية ــ الجيوسياسية التى تخوضها راهنا المكونات التاريخية الأربع للمشرق العربى ــ الإسلامى، تركيا وإيران والعرب والأكراد. هذا ناهيك بالطبع عن الدور التخطيطى والتحريضى المدمر الذى تمارسه القوة الإقليمية الإسرائيلية.
هذا التصعيد الجديد فى المجابهات الإقليمية الذى يترافق، من أسف، مع جهود روسية ــ أميركية ودولية (وإن كانت موضع تساؤلات) لمحاولة احتواء الكارثة الإنسانية الأضخم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية فى سورية، يبدو أنه يؤكد النظريات الغربية بأن الصراعات الدموية الراهنة فى الشرق الأوسط، ستكون نسخة غير منقحة عن حرب الثلاثين عاما فى أوروبا القرن السابع عشر، التى دارت هى الأخرى حول دوافع دينيةــ جيوسياسية، وأسفرت عن دمار شامل فى أوروبا وإبادة ربع أو ثلث سكان القارة.
ونتساءل: هل تدرك العناصر التاريخية الأربعة فى المنطقة أى هاوية سحيقة تسير إليها؟ والأهم: هل تدرك أنها تخوض حروبا عبثية لن يتمكن أى من أطرافها الخروج منتصرا فيها، أو حتى الظفر بأى مكسب مهما كان ضئيلا منها؟ الشيعة، مهما فعلوا، لن يتمكنوا لا الآن ولا بعد حروب مائة عام من تشييع 1,2 مليار سني؟ والسنة لن يتمكنوا، مهما فعلوا، من إعادة شيعة إيران والعراق ولبنان والسعودية إلى قمقم الاضطهاد والتمييز.
السعودية تنفق الآن ما بين 12ــ14 مليار دولار شهريا على الحروب الإقليمية. وإيران تحذو حذوها وتنفق فى سورية وحدها 20 مليار دولار سنويا. وتركيا انضمت أخيرا إلى ركب الانفاق المالى الكثيف بمئات ملايين الدولارات. وكل هذا لتمويل حروب لا نصر فيها، وللسيطرة على مناطق نفوذ لا تجلب المنافع والمكاسب الاقتصادية (كما فى المنطق الامبريالى والامبراطورى) بل التكاليف الباهظة التى ستُفلس حتما كل القوى الإقليمية. هذا علاوة بالطبع عن سقوط مئات آلاف القتلى والجرحى (حتى الآن)، وتشريد عشرات الملايين، وتدمير التوازنات الإيكولوجية للمشرق فى وقت يُهدد تغيُر المناخ العالمى بنشر الخراب البيئى ــ الاقتصادى فى العالم، وعلى الأخص فى كل مناطق العالم الثالث الفقير.
العناصر التاريخية الأربع تسير الآن نحو هاوية فوضى لم يسبق لها مثيل منذ الغزو المغولى للمنطقة فى القرن الثالث عشر. وهى لن تكون حتما «فوضى خلاقة»، لأن كل الحروب الأهلية الدينية – الجيوسياسية فى الحضارة الإسلامية لم تصل مرة منذ نيف و1300 عام إلى أى سلام أو استقرار، بل هى أسفرت على العكس عن تكلُس هذه الحضارة وفقدانها الحرية والاستقلال، وعن تفريخ ما نرى الآن من أصوليات متطرفة وانتحارية وهويات قاتلة وسايكوباتية.
فلنطلق معا صوتا واحدا نحو تركيا وإيران والسعودية والأكراد لندعوهم إلى الحوار بدل الانتحار، وإلى التضامن والتعاون الخلاق، بدل الاقتتال الدموى والتناحر العبثى. وهذه دعوة ليست فقط باسم ما تدعيه جميع الأطراف من التزام بإله واحد، وحضارة واحدة، بل أيضا باسم المصالح وحتى باسم الحفاظ على البقاء.
فلنطلق أيضا معا صوتا واحدا ضد الجنون والهستيريا والتعصب الانتحارى، ولنطالب جميعا هذه العناصر التاريخية للمنطقة بالجلوس إلى طاولة الحوار كى يثبتوا فعلا أنهم «خير أمة أخرجت للناس»، وليس آخر حضارة مُنقرضة على سطح الأرض.
اليوم ــ غدا
«منتدى المبادرة الإقليمية» ــ مؤسسة قيد التأسيس فى لبنان والمنطقة