أهم ما يدور فى جلسات الاجتماعات الدولية، ليس بالضرورة ما يُحشَد فيها من أعداد غفيرة من حضور، أو يصدر عنها من بيانات يستغرق مُعِدُّوها ساعات طوال فى صياغتها، ولكن الأهم ما يجرى فى اجتماعات صغيرة بدعوات خاصة، وتتبع هذه الاجتماعات ما يُعرف بقواعد «تشاتام هاوس»، نسبة إلى اسم المركز الفكرى البريطانى، ووفقا لها فمن الممكن استخدام المعلومات المتداولة، ولكن من غير المسموح نسبة ما قيل لأى شخص من الحضور، تشجيعا للحوار.
والاجتماعات التى انتهت فى واشنطن منذ أيام فى إطار الملتقى السنوى لمؤسستَى بريتون وودز ــ البنك الدولى، وصندوق النقد الدولى، ليست استثناءً من هذا النمط المتصاعد فى المشاركة، ففى حين أن الغرض الأساسى من الاجتماعات هو الشق الرسمى لها، المتمثل فى انعقاد لجنة التنمية لمجموعة البنك الدولى، واللجنة الدولية النقدية والمالية لصندوق النقد الدولى، اللتين تجتمعان مرتين سنويا، فإن ما يحدث خارجهما من لقاءات واجتماعات وندوات يحظى بإقبال متزايد واهتمام مستحَق. ولعلك اطلعت على ما انتهت إليه تقارير المؤسستين عن الوضع الاقتصادى العالمى البائس، الذى يعكس بؤس ما آلت إليه البشرية من أحوال الحرب والصراعات المباشرة وبالوكالة، وزيادة الديون والفقر، والتفاوت الشديد فى الدخول والثروات، وتدهور المناخ.
إن متوسط معدل النمو الاقتصادى العالمى متوقع له الاستقرار عند معدل متواضع يبلغ 3.2 فى المائة، وبتفاوت تتمكّن فيه الولايات المتحدة من الاحتفاظ بصدارة النمو بين الاقتصادات المتقدمة عند 2.8 فى المائة، و2 فى المائة، فى عامَى 2024 و2025، وتنمو فيهما الهند متجاوزة 6.5 فى المائة، ومرتفعة عن الصين التى يحوم معدل النمو فيها حول 4.5 فى المائة، بينما تُصارع بلدان أوروبية السقوط فى هوة الركود عند معدلات نمو لا تتجاوز 1 فى المائة.
أما البلدان العربية والإفريقية فمعدلات نموها تتراوح بين 2 فى المائة و4 فى المائة، ولا تكفى لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، وهى أدنى باستثناءات معدودة عن متوسط معدل النمو الاقتصادى العالمى، بما يُنذر بمزيد من التباعد عن البلدان الأكثر تقدما، كما أن نمو هذه البلدان، على عكس ما تتفوّق به مجموعة دول الآسيان البازغة، يعانى من التركز فى قطاعات متدنية الإنتاجية، وضعيفة التنافسية، ومحدودة القدرة على توليد فرص عمل لائقة للشباب.
ويهدّد هذا النمو المتواضع صدماتٌ خارجية، وانعكاسات السياسات الصناعية، والإجراءات الحمائية، والقيود المتزايدة المفروضة على التجارة والاستثمار والمستحدثات التكنولوجية، فضلاً عن تداعيات أزمة المديونية الصامتة التى تعانى منها بلدان نامية تجاوزت فيها خدمات الديون ما تنفقه على أهداف التنمية المستدامة، بما فى ذلك التعليم والرعاية الصحية. وفى هذه الأثناء تتراجع معدلات التضخم عالميا إلى 5.8 فى المائة، بعدما بلغت 8.6 فى المائة فى عام 2022، وهو أعلى متوسط لها منذ بدء جائحة كورونا وما تلاها من أزمات، ومن المتوقع أن يصل معدل التضخم إلى 4.3 فى المائة فى عام 2025، وفى حين يتراجع معدل التضخم مقتربا من رقم 2 فى المائة بالبلدان المتقدمة، فإن أرقام التضخم تصل لعدة أمثال هذا الرقم، كما أن تكلفة المعيشة الباهظة، مع تراكمات متوالية مرتفعة، ثم منخفضة، لزيادة الأسعار فى السنوات الأخيرة أثقلت الكواهل بما لا تحتمل. ربما تيسّرت سبل دعم منخفضى الدخل بدعمٍ عينى أو نقدى، مشروط أو غير مشروط، ولكن المعضلة الكبرى تواجه فئات دخل الطبقة الوسطى التى لا تتوفر لها سبل مساندتها، وهى التى لم تعتَد من قبل على تلقّى دعم لأسباب المعيشة، ولا تجد فى تلقّيه انسجاما مع أحوالها وتطلّعاتها أصلاً، وترى فيما يجرى اعترافا لما تعانيه من تدهور لم يكن فى حسبانها، وقد تكرّرت وعود بأن ما أصابها من شظف العيش مؤقت وانتقالى، فإذا بها تدرك أن الأحوال المؤقتة طالت لتفرض واقعا جديدا، وستظل البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل فى الأجل المنظور عُرضة لتقلبات فى أسعار الوقود والغذاء، وتكاليف نقلهما، بسبب الصراعات الجيوسياسية.
فى هذا العالم الشديد التغير، من العبث ذهنيا وعمليا، الاستعداد لتحدياته بتهافُتِ مَن استعدّ بأسلحة مواجهة الحرب السابقة، كحال من أقام الخطوط الدفاعية الحصينة لمنع تقدم الألمان غزوا لفرنسا؛ انتفاعا بدروس الحرب العالمية الأولى، فيما عُرف بخط «ماغينو» على اسم مؤسّسه، فجاء الاقتحام فى الحرب العالمية الثانية من بلجيكا، فكم من خط لماغينو تجتهد الدول فى تأسيسه بتكاليف باهظة، وبافتراضات سخية التضليل بأن مكمن الخطر فى الحاضر والمستقبل أيضا هو ما كان فى ماضى انتصاراتها أو هزائمها، ظنا منها أنها تُحسن صنعا.
الانتفاع بالتاريخ لا يكون بالإفراط فى الظن أنه يُعِيد نفسه، وأن قوى الأمس هى قوى اليوم والغد، بل بتمكين عموم الناس من التعامل مع تحديات المستقبل وفُرَصه بالاستثمار فى عقولهم ومهاراتهم، ورعايتهم صحيا.
فمن ثوابت الأمس ما قد تبدّل وتغيّر، ومن متغيراته ما ركد من دون حراك، وحتى نستكمل النقاش، لك هذا المثال عن الثوابت والمتغيرات على طريقة «تشاتام هاوس» المذكورة: حدثنى أحد العالمين بإدارة مخاطر التمويل، فقال: «لقد كنت أدير تمويلى لمصانع أوروبا على ثوابت ثلاث: طاقة رخيصة ومتدفقة من روسيا، وسوق مفتوحة لمكونات الإنتاج وبيع المنتج النهائى فى الصين، وتحالف أمنى مع الولايات المتحدة»، ونعرف ما جرى للثابتَين الأوَّلَين من تغيّر فى الأعوام الأخيرة، وسنعلم ما سيجرى للثابت الثالث خلال أيام بعد فرز أصوات الناخبين للساكن الجديد فى البيت الأبيض.