طريق زائف إلى الدولة - من الفضاء الإلكتروني «مدونات» - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:02 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

طريق زائف إلى الدولة

نشر فى : الجمعة 31 أغسطس 2018 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 31 أغسطس 2018 - 9:05 م

نشرت مدونة «ديوان» الصادرة عن مركز كارنيجى للشرق الأوسط مقالا للكاتب ناثان براون عن تحديات بناء الدولة الفلسطينية. ومن هذه التحديات الانقسام الفلسطينى – الفلسطينى، ففى عام 2006، عندما أعادت الانتخابات أكثرية تابعة لحركة حماس إلى برلمان السلطة الوطنية الفلسطينية، ما أسفر فى نهاية المطاف عن تصدّع جغرافى وسياسى فى الصفوف الفلسطينية، مع سيطرة حماس على غزة، حتى فيما كانت حركة فتح تواصل السيطرة على المؤسسات فى الضفة الغربية.
تواصل إدارة ترامب بدأب قطع الوعود بوضع خطة جديدة للتوصّل إلى سلام فلسطينى ــ إسرائيلى، لكنها لا تفى بها. بيد أن دبلوماسيتها تبتعد بوضوح عن حل الدولتين، أقلّه كما فهمه وتبنّاه المسئولون الأمريكيون منذ رئاسة بيل كلينتون.
ثمة ما هو أخطر، فقد شهدت مقاربة القيادة الفلسطينية لبناء الدولة الفلسطينية تحوّلا بدأ يتجلى بخَفَر. إذ صحيح أن القيادة تتمسّك بقوّة بهدف إقامة دولة فلسطينية، حتى ولو أنه لطالما بدا، على مستوى شعبى، أن مشروع الدولة يتراجع بعدما كان محور التفكير والعمل الوطنيين. غير أن مركزية بناء المؤسسات فى استراتيجية القيادة انحسرت، ما يتسبب باستفحال الانحلال السياسى الخطير فى الضفة الغربية وغزة.
لقد مسحت الخطوات واللغة الأمريكية الأخيرة التركيز عن الدولة، وهى تشى برفض المواقف الفلسطينية من جميع مسائل «الوضع النهائى». وتشمل هذه الخطوات التشديد على الوضع الإنسانى فى غزة مع إنحاء اللائمة كاملة على حماس؛ والزعم بسحب مسألة القدس «عن طاولة» المفاوضات؛ والتهديد بتجاوز القيادة الفلسطينية عبر عرض منافع اقتصادية على الفلسطينيين؛ أو من خلال المسار الدبلوماسى مع الحكومات العربية؛ وقطع المساعدات عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، المكلّفة بالاعتناء باللاجئين الفلسطينيين. وكل ذلك وسط تلميحات عن إسقاط صفة اللجوء عن اللاجئين.
فى الشطر الأكبر من القرن الماضى، ركّزت الحركة الوطنية الفلسطينية طاقاتها على إقامة دولة فلسطينية. غير أن شكل الدولة المحتملة والاستراتيجية المستخدَمة لتحقيقها، كانا موضع خلاف شديد فى السياسات الفلسطينية. وقد بدّلت القيادة العليا موقفها من المسألتَين، بصورة دراماتيكية أحيانا.
ففى العام 1988، تبنّت هذه القيادة – الموجودة فى مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية – إلى حد كبير فكرة حل الدولتَين. ثم دخلت المنظمة، من دون رفض الرؤى الوطنية السابقة واعتبارها غير مشروعة، فى مسار دبلوماسى أدّى إلى مفاوضات مع إسرائيل، وأسفر، اعتبارا من العام 1993، عن إبرام سلسلة اتفاقات تُعرَف باتفاقات أوسلو. كان هدف منظمة التحرير الفلسطينية واضحا: بناء دولة فلسطينية فى الضفة الغربية وغزة، عاصمتها القدس.
أفضت عملية أوسلو إلى تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية (التى رأى فيها الفلسطينيون حجر الزاوية فى تأسيس الدولة). وقد بنت هذه السلطة هيكليات لإدارة الشئون الفلسطينية فى الضفة الغربية وغزة. وتولّت إدارة كل شىء بدءا من التعليم والرعاية الصحية وحركة السير، وصولا إلى ترخيص المنظمات غير الحكومية، حتى فيما كانت تُنشئ مؤسسات دولةٍ محتملة، بدءا من قوات الشرطة وصولا إلى البرلمان.
من وجهة النظر الفلسطينية، وقعت عملية أوسلو فى أزمة اعتبارا من العام 1999. فقد انقضت فترة السنوات الخمس التى حدّدتها عملية أوسلو، من دون التطبيق الكامل لأحكامها، فى حين لم تنطلق حتى مفاوضات جدّية حول بديل دائم عن هذه الاتفاقات، يشتمل كما يُفترَض على إقامة دولة. ثمّ وقعت أزمة حادّة ثانية فى العام 2006، عندما أعادت الانتخابات أكثرية تابعة لحركة حماس إلى برلمان السلطة الوطنية الفلسطينية، ما أسفر فى نهاية المطاف عن تصدّع جغرافى وسياسى فى الصفوف الفلسطينية، مع سيطرة حماس على غزة، حتى فيما كانت حركة فتح تواصل السيطرة على المؤسسات فى الضفة الغربية.
***
كانت لهذه الأزمات تأثيرات غريبة. فقد عزّز أفرقاء دوليون أساسيون التزامهم اللفظى بحل الدولتين، ولم تتمسك السلطة الوطنية الفلسطينية بحل الدولتَين وحسب، بل زعمَ قادتها أنهم يعملون من أجل بناء دولة أكثر فاعلية وشفافية وقدرة. وبهذا المعنى، أصبح بناء مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، الذى يقتصر الآن إلى حد كبير على الضفة الغربية، محور الجهود التى بذلها القادة الفلسطينيون وداعموهم الدوليون من أجل إقامة الدولة.
لكن اليوم، وبعد ربع قرن على توقيع اتفاق أوسلو الأول الذى أتاح للسلطة الوطنية الفلسطينية أن تبصر النور، لا تعدو هذه السلطة كونها مجرد حكومة تمارس حكما ذاتيا محدودا فى المناطق الفلسطينية ذات الكثافة السكّانية العالية فى الضفة الغربية. ولذا، قلة من الفلسطينيين المولودين بعد عملية أوسلو يعتبرون أن هناك مساعى لبناء الدولة، ولذلك يحوّلون طاقاتهم واهتماماتهم نحو أمور أخرى.
ويبدو أن القادة باتوا يتقبّلون أيضا الفكرة القائلة بأن تحسين السلطة الوطنية الفلسطينية أساسى لقيام الدولة هى ضربٌ من الخيال. فالسلطة توفّر الوظائف، والخدمات الاجتماعية الحيوية، والبرامج الرسمية، والسيطرة، ولذلك يرفض قادتها أى كلام عن التخلى عنها، وهم يشتكون من أن الفلسطينيين كانوا جاهزين مؤسّسيا لقيام الدولة قبل سنوات عدّة. إنما يبدو أنه يُنظَر الآن إلى الحوكمة المحسَّنة بأنها طريق الأمس الزائف نحو قيام الدولة.
فى نظر جيل القادة الذين يغادرون الآن المشهد شيئا فشيئا، الابتعاد عن بناء المؤسسات أمرٌ مفهوم. ويبدو أن القيادة الفلسطينية تعتبر أنها أنجزت بناء حركة وطنية، ووجّهتها عبر المراحل المتعدّدة للصراع والتضحية، فيما هى تحافظ فى الوقت نفسه على قدرتها على تمثيل الفلسطينيين وتحقيق مستوى من الاعتراف الدولى، على الرغم من الكوارث والانتكاسات. ويشكّل إخفاق عملية أوسلو انتكاسة إضافية، ويكمن السبيل الأنسب لمواجهة الصعوبات الراهنة فى الحفاظ على حرية المناورة لدى القيادة فى وجه التحديات الداخلية والخارجية، والتمسّك بمنظمة التحرير الفلسطينية لكن مع استخدام السلطة الوطنية الفلسطينية فقط كوسيلة للحفاظ على النظام والسيطرة.
إذن، فى حين لم يتخلَّ كبار القادة عن البحث عن الدولة، لم يعودوا يتصرّفون على أساس أن بناء المؤسسات الداخلية يُشكّل جزءا رئيسا من ذلك المجهود. ويتجلّى ذلك، فى العلن، فى تسليط الضوء بصورة أكبر على الرئيس الفلسطينى محمود عباس شخصيا، مع عرض صورته بطريقة بارزة فى مختلف المناطق الخاضعة إلى سيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية. ويشدّد الخطاب الرسمى على منظمة التحرير الفلسطينية، والمجلس الوطنى الفلسطينى، وحركة فتح، و«الثورة» الفلسطينية أكثر منه على السلطة الوطنية الفلسطينية، بما يجعل القادة يستمدّون سلطتهم من التاريخ والتضحيات الفلسطينية وليس من الإجراءات الرسمية.
***
واقع الحال هو أن هياكل هيئات الضفة الغربية، ومع أنها قد تُصنّف نفسها الآن بأنها أجزاء من «دولة فلسطين» وليس من السلطة الوطنية الفلسطينية وحسب، تخدم فى الواقع مجرد أفكار إدارية فات أوانها، ولم تعد تُعتبَر نواةً فى مجهود إقامة الدولة. وهنا تبدو التأثيرات على السلطة الوطنية الفلسطينية واضحة، حيث يتم أحيانا إخضاع المؤسسات الفلسطينية الأساسية، وتُجرى تعديلات واسعة فى المناصب الكبرى، وتُمارَس ضغوط خفيّة خدمةً لمصالح كبار المسئولين، أو من أجل الحئول دون تكبيل أياديهم، أو بغية إدارة نزاعاتهم وقمع المعارضة. صحيح أن المؤسسات الأمنية لا تزال قوية، وتواصل السلطة الوطنية الفلسطينية تأمين خدمات اجتماعية أساسية هى، فى مختلف الأحوال، جزء من الحياة اليومية. غير أن السلطوية الزاحفة، وشخصنة السلطة، وتجاهُل المعايير القانونية والمهنية، هى كلها مؤشّرات واضحة لا لبس فيها عن قيادة لم تعد تكترث للحوكمة الرشيدة وفق مفهومها فى المرحلة التى أعقبت أوسلو.
ختاما يضيف الكاتب أنه إذا كان بناء السلطة الوطنية الفلسطينية لم يعد جزءا من الاستراتيجية التى تنتهجها القيادة لإقامة الدولة، فما الذى حلّ مكانه؟ المشكلة بالنسبة إلى جميع الفلسطينيين هى أنه لم يحل أىّ شىء مكانه.
تريد القيادة العليا استراتيجية دولية، لكنها عاجزة عن استنباط واحدة. وفى الوقت الراهن، ترفض أصوات مسيطِرة العنف مُعتبرةً أنه يلحق الهزيمة بصاحبه. إلا أنه ليس لكبار القادة ما يُقدّمونه للفلسطينيين ما خلا رؤية غير ملهِمة عن الدولة، وذكريات عن نضال تاريخى بدأت بالاضمحلال.

النص الأصلى

التعليقات