فى زيارة قصيرة لبيروت الجميلة، الجميلة بأهلها وطقسها وآثارها أمضيت 3 أيام أبحث عن شىء ما لا أعرف ما هو.. فيه حاجة ناقصة مش عارفة هى إيه.. شىء تعودت على رؤيته كل يوم ترك اختفاؤه داخلى شعورا بالفراغ..
انتهت الزيارة ورجعت إلى أرض الوطن بسلام وفور الخروج من منطقة المطار رأيتها.. مأدبة عامرة بما لذ وطاب.. صندوق زبالة، الزبالة التى تحيط به كالعادة أضعاف تلك الموجودة بداخله، مجموعة من أطفال مصر الأبرياء يقلبون فيها ويتسابقون ليظفروا بقطعة من الكارتون أو قطع من الزجاج ويشاركهم فى البحث مجموعة من القطط الضالة تعيش فى حالة وئام وسلام مع عائلة من الفئران ويرفع الجميع شعارات دع الخلق للخالق، عيش وسيبنى أعيش، دعه يعمل دعه يمر، واكتشفت أننى طوال رحلتى فى لبنان لم أشاهد هذا المشهد الحميم وتلك المشاعر الجياشة فى أى من شوارعها الشعبية أو الراقية، ويتساءل المصرى الحكيم: الناس دى بتودى زبالتها فين؟.. والقطط الغلبانة اللى بتاكل من الزبالة دى والكلاب والفيران وأطفال الشوارع يعيشوا إزاى؟.. الناس دى ما عندهاش قلب ولا رحمة؟.. وإزاى اقتصادهم واقف على رجليه من غير دعبسة العيال الصغيرين على ورق الكرتون والإزاز المكسر؟.. طب والعيال تلعب فى إيه؟.. مش نشاط ده يشغلهم عن الانحراف فى طريق الإجرام أو الانخراط فى صفوف الجماعات الإرهابية؟
الناس دول مش عارفين مصلحتهم على فكرة.. اتنكدت جدا بصراحة وملأنى الخوف على مستقبل لبنان.. لكن خوفى على مستقبل لبنان لا يعادل أبدا خوفى على مستقبل اليابان.. فى برنامجه الرائع «خواطر» على قناة الـ«إم بى سى» عرض علينا المتميز أحمد الشقيرى طوال شهر رمضان مقارنات بين الحياة على كوكبنا والحياة على كوكب اليابان.. فى إحدى الحلقات بعنوان «يوم فى حياة زبالة» عرض البرنامج صور الأطفال فى المدارس وهم يتعلمون تنظيف فصولهم بأنفسهم (هنا تبقى قلة قيمة وأحيانا قلة أدب كمان).. صور عامل النظافة الذى يقبض ما يعادل 8000 دولار فى نهاية كل شهر (أيون.. 40 ألف جنيه فى الشهر يا دكتور).. وصور سيارات القمامة النظيفة اللامعة وهى تجمع القمامة التى جمعها سكان إحدى العمارات فى أكياس بيضاء أنيقة تتابعها الكاميرا حتى تصل إلى مكان تجميعها ليكتشف مقدم البرنامج أنها قمامة بلا رائحة لأن السكان يفصلون المواد العضوية عن الصلبة ولا يلقون بأى سوائل فى أكياس القمامة وهو ما يمنع التعفن وظهور الروائح الكريهة (زبالة من غير ريحة.. الدنيا اتقلت بركتها يا جدعان)..
فى بلاد العالم المتحضرة ينظر السكان إلى القمامة كمصدر خطر.. شىء ضار بالصحة ويجب التخلص منه بطريقة صحيحة وآمنة.. وجميلة.. ما بيطيقوش يشوفوا صندوق زبالة مفتوح.. أو كيس مرمى فى إهمال تعبث به القطط.. ما بيطوحش واحد منهم الكيس على طول دراعه وكأنه فى إحدى مسابقات رمى القرص الأوليمبية ويرتاح طالما وقع بعيدا عن بيتهم وبعيدا عن صندوق الزبالة لأنه لو وقع جواره تبقى عيبة وأى عيبة (عيل هو هيسمع الكلام ويرمى الزبالة فى مكانها والا إيه؟)..ما بيكوموش الزبالة فى ميدان ولا فى جنينة ولا بيرموها قدام مكان للعبادة ولا فرن من أفران العيش.. مفيش جواهم الإحساس بلذة الانتقام اللى بيحس بيها البعض هنا لما يبوظلهم شكل الشارع.. شارع الحكومة.. أو شارع أصحاب المحال.. المهم إنه شارعهم همه إحنا يا دوب عايشين فيه..
ما حدش فيهم بيقول يا للا نفسى ولا حد بيقول هو أنا يعنى اللى هانضف البلد؟ ويفتح شباكه ويطوح كيس الزبالة فى الشارع قدام ابنه اللى أكيد طبعا هيقلده.. ما حدش فيهم بيعتبر النظافة رفاهية وفراغة عقل ولا هيعمل زى سواق التاكسى اللى خطف من إيدى كيس شيبسى فاضى ورماه من الشباك لما سمعنى باقول لصاحبتى إنى هاستنى لما ألاقى صندوق زبالة وأرميه فيه وما حدش فيهم هايقول زى ما قال السواق وهو بيزغرلى «توب علينا من الفرافير يا رب» ما بتعايشوش مع الزبالة ويشوفوها شىء عادى وطبيعى ومنطقى.. كوم زبالة فيها إيه يعنى؟..
عندك فكرة إنهم فى إيطاليا كانوا على وشك القيام بإضراب عام واشتبك السكان مع الشرطة لأن شركات جمع القمامة تأخرت عن القيام بعملها والسكان لم يتنازلوا عن موقفهم إلا بعد نزول الجيش بنفسه لجمع القمامة من الطرقات؟.. هناك ما استحملوش شكل الزبالة واحنا هنا بنركب التاكسى ونقول له نزلنى عند كوم الزبالة اللى بعد اللى جاى لو سمحت.. هناك يطبقون بالفعل مبدأ «النظافة من الإيمان» وهنا نداوم على احترام اتفاقنا الضمنى على أن نستمر فيما نفعله حتى ينتهى بنا الأمر جميعا للعيش داخل صندوق قمامة.