نشرت مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى فى واشنطن مقالا للكاتب ديفيد لينفيلد، يقول فيه إن المانحين الدوليين والولايات المتحدة ركزوا على التحرر الاقتصادى بدلا من الإصلاح السياسى، وذلك ساعد النخب والحكومات على استغلال الموارد، مما أدى إلى ترسيخ الأنظمة السلطوية وزيادة الاحتجاجات.. نعرض منه ما يلى. يردد الكاتب ما سمعه: «إن النخبة قد سرقت بلدنا منّا»، وهى كلمات سمعها من شاب عربي أثناء جلوسه فى مقهى فى أغسطس من العام 2020. فالشاب فقدَ إيمانه بالمؤسسات العامة التقليدية، إذ لا يعتقد أن عشيرته أو النظام أو الأحزاب المعارضة تمثّل مصالحه ومتطلباته. يقول الكاتب إن هذه المشاعر ليست موجودة فقط فى الأردن. فقد تزامن تنصيب الرئيس الأمريكى فى 20 يناير 2021 مع الذكرى العاشرة للربيع العربى. ويرى أن الأسباب التى أدت إلى اندلاع أحداث الربيع العربى لم تتم معالجتها حتى الآن. على الرغم من أن أولوية الإدارة الأمريكية الجديدة تنصبّ على القضايا الداخلية، غالب الظن أن ازدياد التوتر فى الشرق الأوسط سيشدّ انتباه الإدارة مجدّدا. لكن ذلك لا يعنى أن على الإدارة الأمريكية وغيرها من المانحين الدوليين التدخل فى المنطقة مثلما اعتادوا فى الماضى. ففى الكثير من الأحيان، خدمت هذه الجهود الدولية عن غير قصد مصالح النخبِ فى المنطقة على حسابِ الاستقرار العام فيها. وكانت عواقب هذا التدخل غير المقصودة تظهر بشكلٍ واضح من خلال ترسيخ الأنظمة السلطوية وازدياد الاحتجاجات. لذلك، يجب أن يكون هناك استراتيجيات مختلفة للتدخل. ازدياد حدة الاحتكاكات أصبحت الأصوات المطالبة بمكافحةِ الفساد مألوفةً للغاية فى الشرق الأوسط. فقد وحّدت صعوبة الأوضاعِ الاقتصادية الكثير من الأطراف المختلفة، إذ ازداد يقين مجتمعات الفئةِ الاقتصادية الفقيرة، سواء كانوا سُنةً أو شيعة، مسيحيين أو مسلمين، بأنهم يتشاطرون مع بعضهم البعض عوامل أكثر من تلك التى تجمعهم بنخبِ الأغنياء الذين يشاركونهم نفس الديانة أو العِرق. فاقمت جائحة فيروس كورونا التفاوت الاقتصادى فى المنطقة. فقد تحمّلت الأسر ذات الدخل المحدود وطأة حظرِ التجول والإغلاق الاقتصادى. وقد شعر المسئولون بذلك ويخشون تأثيره على المستوى السياسى. وفى ظل الوضع الاقتصادى الراهن، قد يقوى التضامن بين الفئات الاجتماعية المختلفة، علما بأن بعض النظم فى الشرق الأوسط تحافظ على قاعدة فرق تسد للمحافظة على قبضتها على السلطة، لكن هذه الأساليب لن تفلحَ أمامِ مجتمعاتٍ محلية توحّدها الطبقة والحالة الاقتصادية. كيف فاقم المانحون الدوليون من التوتراتِ الطبقية يشير الكاتب إلى دور المانحين الدوليين، مثل الولاياتِ المتحدة والمؤسسات المالية الدولية، فى زيادة سوء الأوضاع من خلال إعطاء الأولوية إلى التحرّر الاقتصادى فى الشرق الأوسط بدلا من الإصلاح السياسى، ما أسهم فى زيادة التوتراتِ الطبقية. ولطالما رحّبت الحكومات والنخب السياسية فى المنطقة بهذه السياسة لأنها ساعدتهم فى المحافظة على مصالحهم، وهذا صحيح من الناحية الاقتصادية. فقد صبّ التضخم والأرباح الاقتصادية التى صاحبت التحرر الاقتصادى بشكل غير متناسب فى صالح نخبِ المنطقة. وتصنّف قاعدة بيانات عدم المساواة العالمية الشرق الأوسط كأكثر منطقة تفتقر إلى المساواة الاقتصادية فى العالم. إضافةٍ إلى ذلك، تشير قاعدة البيانات إلى انخفاض مستوى عدم المساواة الاقتصادية على مستوى العالم منذ تسعينيات القرن الماضى، لكن هذه المعدلات بقيت ثابتةً فى الشرق الأوسط. أدّى ذلك إلى شعور الكثير من سكان الشرق الأوسط بخيبة أملٍ من حكوماتهم ومؤسساتهم المجتمعية. وقد دفع غياب الشفافية فى إصدار القرارات سكان المنطقة إلى الافتراض بأن ثروة النخب بمعظمها اكتُسبت على الأرجح بطرقٍ غير مشروعة. ففى العام 2018 قام الباروميتير العربى بدراسةٍ استقصائية على مستوى المنطقة، أظهرت أن نسبة من يظنون بأن الفساد منتشر بدرجةٍ متوسطة إلى كبيرة فى كل دولة تتراوح من 71 إلى 93 فى المائة. الاستياء الاقتصادى يهدّد بتوحيد المعارضة السياسية ومع ازدياد الاستياء الشعبى من الفساد وارتفاع معدل عدم العدالة الاقتصادية، تغيّرت التركيبة الطائفية للاحتجاجات والخطابات المعتادة. ففى لبنان المعروف بالطائفية السياسية، اندلعت مظاهرات فى نهاية العام 2019 من شتى الطوائف؛ إذ تظاهر المواطنون والمواطنات السنة والشيعة والمسيحيون ضد النخبة الفاسدة المتعددة الطوائف. وفى الشهر نفسه، اجتمع السنة والشيعة العراقيون احتجاجا على الحكومة، ما شكّل تناقضًا صارخًا مع الوضع الطائفى المعتاد هناك. وفى صيف العام 2019، وتّرت المظاهرات فى الأردن الحكومة بسبب حجمها الكبير وتركيبتها المتنوعة. فاجتمعت جماهير من العشائر الأردنية من غير الأصول الفلسطينية مع أردنيين من أصولٍ فلسطينية اعتادوا عدم المشاركة فى المظاهرات مع بعضهم البعض بسبب الانقساماتِ والاختلافات التاريخية بينهم. ولطالما دافعت حكومات الشرق الأوسط والنخب الحاكمة عن تفضيلها للتحرر الاقتصادى والامتناع عن الإصلاح السياسى، باعتبار أن هذا النهج يحافظ على الاستقرار ويتفادى التغيير الفوضوى. ولطالما قبل المانحون الدوليون بهذا المبدأ لأنهم يرون أن الاستقرار فى المنطقة أهم من المصالح الاقتصادية والأمنية. لكنهم عن غير قصدٍ يدعمون سياسات النخب التى تزيد لهيبِ التوتراتِ الطبقية وتفاقم الانقسام بين المواطنين والمواطنات وحكوماتهم، وبالتالى يرفعون احتمالات حدوث تحولٍ مدمر وعنيف بدلا من خفضها. طريقٌ أفضل فى المستقبل يرى الكاتب أنه إذا أرادت الولايات المتحدة وغيرها من المانحين الدوليين تقليل خطر حدوث تغييرٍ فوضوى وعنيف فى الشرق الأوسط كما شهدنا خلال فترة الربيع العربى، فعليهم التخلى عن فكرة أن التحرر الاقتصادى الذى تقوده النخب من غير ضمانات للإصلاح السياسى ستؤدى إلى الاستقرار فى المنطقة. بل إن الأسلوب الأكثر فعالية هو الدمج بين الدعوةِ إلى الإصلاح الاقتصادى والحكم الصالح جنبا إلى جنب. مثلا، يجب على القروض والمنح ألا تكون مشروطة بالخصخصة والهيكلة الضريبية فحسب، بل يجب تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد. يُعتبر إصرارُ صندوق النقد الدولى مؤخرا على أن يكافح لبنان الفساد قبل تلقّى أى منحٍ إضافية خطوةً فى الاتجاه الصحيح. إضافةً إلى ذلك، سيعطى التوجه نحو تمكين الهيئات التشريعية بما يتجاوز أدوارها الحالية المجتمعاتِ الغاضبة فى المنطقة بديلا عن التظاهر فى الشارع. وهذه الإصلاحات على الأغلب ستحسّن الحكم والأداء الاقتصادى على حدٍّ سواء، وفقًا لتحليلاتِ صندوق النقد الدولى والبنك الدولى حول تأثير الفساد والممارسات الاحتكارية وإعاقتهما للمنطقة. تمثّل الإدارة الأمريكية الجديدة فرصةً ملائمة لإحداث تغييرٍ فى السياسة المتبعة. فإن دمج الإصلاح السياسى مع مبادرات الإصلاح الاقتصادى القائمة يتوافق مع الرغبة المعلنة للرئيس المنتخب جو بايدن من أجل جعل مكافحة الفساد أحد أهم مبادئ سياسته الخارجية. وتحسّبا لتقويض هذه الجهود من قبل المانحين غير الليبراليين مثل الصين ومنحِها غير المشروطة بمكافحة الفساد، دعت الإدارة الأمريكية إلى عقدِ قمةٍ للديمقراطية خلال أول عام لها لتنسيق العمل الدولى لمكافحة الفساد والأنظمة السلطوية. وكلّما سرّعت الولايات المتحدة وغيرها من المانحين الدوليين التصدّى لمشكلة استغلالِ نخبِ الشرق الأوسط عبر أجندة إصلاحية هدفها صون مصالحهم الشخصية، زادت فرص تحقيق استقرار فعلى فى المنطقة.
(النص الأصلي)