نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للباحثين ناثان براون وانتصار فقير وياسمين فاروق عرضوا فيه أهم التحولات فى الشرق الأوسط الناتجة عن فيروس كورونا... نعرض منه ما يلى:
يرى الباحثون أن ربما يتسبب فيروس كورونا المستجد بزيادة سيطرة الحكومات فى دول الشرق الأوسط، إلا أن هذا الفيروس قد يؤدى إلى تغيير طفيف فى طبيعة هذه النظم. فالتدقيق فى طريقة طرح وصنع وتطبيق السياسات يشير إلى حدوث تحولات مهمة فى طبيعة الحكم فى المنطقة. ربما نتجت هذه التغييرات عن تطورات تستند إلى أنماط كانت واضحة قبل تفشى الجائحة. ولن يتضح قبل انقضاء هذه الأزمة ما إذا كانت التحولات الراهنة تمثل مجرد ومضات عابرة أو أنها بوادر تحولات فعلية.
رصد الباحثون أن من ضمن هذه التحولات صعود جاذبية الخبرة التقنية. ففى بلدان كثيرة، يؤدى أفرقاء جدد فى أجهزة الدولة دورا أكبر فى تطبيق السياسات وحتى تحفيزها. كما يبدو أن المؤسسات الدينية والنقابات الطبية والحكومات المحلية تأخذ مبادرات بنفسها فى بعض البلدان بدلا من أن تكتفى بالاستجابة للتوجيهات الصادرة عن السلطات الأعلى.
هذا ليس خبرا مستجدا فى بعض البلدان لكنه يُبرَز أحيانا تحت ضوء جديد. ففى شمال إفريقيا، معاملة التكنوقراط باحترام وتقدير هى ممارسة راسخة فى بعض المناطق. ونتيجة التغييرات السياسية الأخيرة فى السعودية، حدث تحسينات فى أداء الحكومة لرغبتها فى الحصول على تصنيفات دولية أعلى.
لكن التكنوقراط تقدموا إلى مجالات كانوا أقل بروزا فيها سابقا. يُشار فى هذا الصدد إلى أن رئيس الوزراء المصرى، وهو مهندسٌ، ووزير الصحة، هما الوجهان الأكثر بروزا فى عرض المعلومات والسياسات الحكومية... وفى السعودية، يعقد المتحدث باسم وزارة الصحة مؤتمرات صحافية يومية بشأن فيروس كورونا، ويتحول إلى شخصية عامة، شأنه فى ذلك شأن وزير الصحة. وفى بلدان عدة، ظهرت فرق خاصة جديدة من التكنوقراط.
تغير الأمر أيضا بخصوص من يطل على الجمهور وأفسح الحكام المجال أمام الخبراء التقنيين والمسئولين الذين لم يكونوا يطلون على الجمهور من قبل كى يتقدموا إلى الواجهة فى شرح السياسات والإدلاء بالمعلومات. يمكن إرجاع ذلك إلى النزعة العالمية التى يسعى فيها القادة المنتخَبون ديمقراطيا إلى إظهار أنهم ممسكون بزمام الأمور، أو رغبة بعض الحكام فى ترك الآخرين يعلنون الأنباء السيئة والتعليمات غير المرحب بها.
الوقوف فى واجهة عمليات الاستجابة، يضع القادة أمام فرص ومخاطر على السواء. فتسلُم زمام الأمور علنا فى المدى القصير قد يساهم فى تدعيم الشرعية، بما يؤدى إلى تعزيز صورة المنقذ. ولكنه يثير فى المدى الطويل خطر المساءلة. إذا تسببت الأزمة بتداعيات وخيمة جدا، فقد يجد الحكام الذين يضعون أنفسهم فى صلب مواجهة الأزمة صعوبة فى إبعاد اللوم عنهم أكبر من تلك التى كانوا ليواجهوها لو ظلوا فى الخلفية.
يشير الباحثون إلى التحول الثالث فى انحسار الانقسام وتراجع نظريات المؤامرة مع عدم اختفائها، فتبدو أقل بروزا فى المرحلة الراهنة، ولعل السبب هو أن إجراءات الصحة العامة تتوقف على الامتثال الذى لا تعيقه اختلافات إثنية أو نزاعات مذهبية أو حدود.
يتعلق التحول الرابع بتعزيز آلية ضبط المعلومات. بسبب انتشار فيروس كورونا، باتت مركزية الدول فى جمع المعلومات وتقديمها أكثر بروزا من العادة. ربما تساهم التكنولوجيا فى تسهيل الحياة اليومية خلال الحجر، ولكنها تساعد أيضا الجهات الرسمية فى السيطرة على المعلومات. لكن يشير أيضا الباحثون أن تداول المعلومات مازال يخضع إلى بعض القيود فى تداولها.. ففى هذه المنطقة حيث الشبكات الاجتماعية ــ المستندة إلى التفاعل وجها لوجه وإلى مواقع التواصل الاجتماعى ــ هى شبكات غنية فى الغالب، لطالما تبادل السكان المعلومات من خلالها. استغلت الأنظمة فى معظمها الفرصة التى تقدمها هذه الأزمة لقطع الطريق على «المعلومات المغلوطة» ــ وجزء كبير منها هو فعلا معلومات مغلوطة، لكنها أحيانا محرِجة أو غير ملائمة وحسب.
التحول الخامس الذى تناوله الباحثون هو أن فيروس كورونا ساهم فى تحريك مشاركين جدد من المجتمع المحلى والمنظمات الأهلية. فى بعض البلدان، ولدت الأزمة فرصا أمام أفرقاء مهمَشين أو غير ممكَنين، مثل البلديات ومجالس المحافظات والمنظمات الشعبية والهيئات التطوعية الخاصة، للتقدم وملء الفراغ، من خلال تأمين الخدمات وتوزيع الإعانات وتقديم المعلومات وترجمة الإرشادات الوطنية العامة إلى إجراءات محلية محددة.
فى السعودية مثلا، تعمل القيادة على تشجيع العمل التطوعى لدى المواطنين والقطاع الخاص على السواء. وفى مصر، تبدو الحكومات المحلية أكثر نشاطا على الرغم من أنه يقتصر على بعض المناطق. وفى المغرب وتونس والجزائر، ومع استتباب الأوضاع، تقتطع المنظمات الأهلية حيزا لها لنشر التوعية وتشارُك أعباء تأمين الخدمات، ودعم الفئات الهشة. وفى بلدان أخرى، مثل السعودية، تتجدد المساحة المتاحة أمام النشاط الخيرى ولكن يظل هناك إشراف رسمى. لاتزال هذه الجهود فى بدايتها، ولكنها تتيح فرصا أمام المجتمع المدنى.
التحول السادس كما يشير الباحثون مرتبط بالضغوط التى وقعت على الحكومات فى اختيار أساليب التصدى للوباء فى ظل وعى السكان تماما بالإجراءات المتخذة فى الدول الأخرى بإيجابياتها وسلبياتها.
هذه النزاعات لن تشكل تغييرا جذريا فى نظم الحكم فى المنطقة ولكنها تُضفى، فى بلدان كثيرة، طابعا أكثر تكنوقراطية على الحوكمة. وقد تولد فرصا أمام المجتمع المدنى أو تؤدى إلى توسع الأنظمة فى بعض الأماكن إذا أظهر الأفرقاء الجدد منفعتهم أو تمكنوا من تطوير قواعد ناخبة راسخة. ربما يشبه ذلك بعض الشىء ما شهدته مجتمعات أمريكا اللاتينية خلال الستينيات والسبعينيات ووصفته بـ«السلطوية البيروقراطية».
السؤال المطروح فى المدى القصير هو إذا كان باستطاعة هذه التعديلات التكتيكية مساعدة المجتمعات على مواجهة أزمة فيروس كورونا. والسؤال فى المدى الطويل هو إذا كانت هذه التعديلات التكتيكية سوف تتطور إلى تعديلات استراتيجية. لكن المدى الطويل قد يكون قصيرا على نحوٍ غير معتاد. وغالب الظن أننا سنشهد صعود التوقعات بأن الدولة سوف تحمى مواطنيها من الأذى وتعمل على تلبية احتياجاتهم الأساسية. ومع تخفيف القيود على الحركة والحياة العامة، قد يخرج الناس من عزلتهم الجسدية مع أنماط من الثقة أُعيد تصورها إلى حد كبير، وقد باتوا واعين للمؤسسات التى ساعدتهم وتلك التى لم تفعل.
النص الأصلي