مثل المئات من سكان القاهرة والمدن الأخرى سافرت إلى الإسكندرية ملبية دعوة القوى الوطنية للاحتجاج على مقتل الشاب السكندرى خالد سعيد والتنديد بوحشية الشرطة، مشيت باتجاه السياج الأمنى طالعتنى وجوه الضباط واللواءات وعساكر الأمن المركزى، وجوه تجمع زبد القسوة على ثغرها مستعدين بعصاهم الكهربائية ودروعهم الحديدية، بدا لى أنهم بدلوا أجسادهم بدمى من الحجر، تأجج غضبى، رجعت مرة أخرى إلى حشود المتظاهرين، لم يكن مشهد تلاحم القوى الوطنية ومشاركة الآلاف فى المظاهرة هو الذى هزنى وأشعل غضبى وسخطى على سياسات النظام الحاكم، إنما وجود مجموعة من الأمهات يرددن الهتافات بصوت جهورى، عندما اقتربت منهن لاحظت أن دموعهن تسيل وأن قلوبهن تنفطر حزنا ولوعة...سألتهن أنتن أقارب خالد سعيد؟ قالت أكبرهن سنا، نحن أمهات...الضنى غالى... بكيت ورددت معهن: «كل مصرى معاك ياخالد إلا رجال الحكم الفاسد...إلا رجال الحكم الفاسد»، «الطوارئ والإرهاب جاية تقتل الشباب».
اختلط هدير الهتاف بصخب البحر، تخيلت أن بحر الإسكندرية غاضب وأنه سيلقى بأمواجه لتلتهم كل شكل من أشكال العداء للحياة، هذا الوجود الأمنى المستفز الذى يحيط بالمكان وبالشوارع الجانبية ويمتد حتى الكورنيش ويشعر المرء بأنه يمشى وسط ثكنة عسكرية... هذا البحر شاهد على القتل والقمع والوحشية والاستبداد، نعم الاستبداد الذى تمارسه السلطة يوميا على أبناء هذا الوطن بأشكال مختلفة.
فى طريق عودتى قررت أن أتنسم هواء البحر فمشيت بمحاذاة الكورنيش، كان الغضب والألم مازالا يضطرمان فى صدرى، سألت نفسى سؤالا بسيطا ومحددا، هل يمكن أن نقهر الاستبداد؟ ولكن قبل أن تاتى الإجابة وجدت نفسى أتساءل ما المقصود بالاستبداد وما علاقة الاستبداد بالعنف وما علاقتهما بالفساد...أخذت أستدعى من الذاكرة كلمات «عبدالرحمن الكواكبى» الذى رحل عن عالمنا منذ أكثر من مائة وسبعة أعوام، هذا المفكر الذى مات مسموما على يد أحد عملاء السلطان العثمانى عبدالحميد، لأنه كتب عن «طبائع الاستبداد» وراح شهيدا لهذا الاستبداد.
يعرف الكواكبى الاستبداد على أنه: «صفة الحكومة المطلقة العنان، فعلا أو حكما، التى تتصرف فى شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين، وتفسير ذلك هو كون الحكومة إما هى غير مكلفة بتطبيق تصرفها على شريعة، أو على أمثلة تقليدية، أو على إرادة الأمة، وهذه حالة الحكومات المطلقة، وهى مقيدة بنوع من ذلك ولكنها تملك بنفوذها إبطال قوة القيد بما تهوى، وهذه حالة أكثر الحكومات التى سمت نفسها بالمقيدة أو الجمهورية».
وبالطبع فالفساد بحره واسع، بعيد الأطراف مختلف اللجج متباين الأزمنة والأمكنة، الفساد يرعى الخوف فيؤكد الكواكبى «إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه، لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم، وخوفهم ناشئ عن جهل، وخوفه عن عجز حقيقى فيه، وخوفهم عن توهم التخاذل فقط، وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطن يألفون غيره فى أيام، وخوفه على كل شىء تحت سماء ملكه وخوفهم على حياة تعيسة فقط، كلما زاد المستبد ظلما أو اعتسافا زاد خوفه من رعيته، وحتى من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته».
وهذا الاستبداد يدفع أى نظام أن يرسخ الاعتقاد بشرعيته ويتعهده بالرعاية فيتم تطبيق منظم للردع والسيطرة الاجتماعية عن طريق أدوات متنوعة (الشرطة....أمن الدولة، الأجهزة العسكرية).
الخطير فى الأمر أن العنف يتم شرعنته وينظر إليه بوصفه تطبيقا للقانون ولا ينظر إلى العنف الناتج عن الاستخدام الشرعى للإكراه بأنه عدوان، ويتم تحويل اللوم على الضحية بوصفها سببا للهدم الاجتماعى بغية المحافظة على أسطورة العنف (انظر إلى الآلاف التى تم تعذيبهم فى السجون وأقسام الشرطة المصرية والمبررات التى وضعت تحت شعار حماية أمن النظام، مما جعل التعذيب من ثوابت الوضع الراهن فى مصر).
وقد يجرى تمييز الأشخاص وإيذاؤهم أو قتلهم باعتبارهم حاملى أفكار سياسية هدامة تقوض أمن المجتمع وسلامته (الشيوعيون، الإخوان المسلمون، اليساريون، شباب 6 إبريل، المدونون....إلخ) وأنهم أشخاص سيئون أشرار (عماد الكبير، خالد سعيد....) وأن العنف ضرورى مع هؤلاء الأشخاص من أجل تحاشى عنف أعظم وبالتالى يصبح الضحية ليس له حق «شرعى» فى طلب العدالة، ويصبح الحق الشرعى الوحيد هو التسامح مع العنف ضد الضحية والقبول بشرعية مثل هذا العنف، وكل من يعترض سبيل تحقيق هذا فهو خارج على القانون، وبذلك يستطيع النظام الحاكم كبح الاحتجاجات المنظمة وغير المنظمة بوصفها شاذة ويتم تصوير مصالح الطبقة الحاكمة بوصفها مصلحة عامة، مصلحة الشعب.
ويتم تشييد معتقدات وقيم تخص هذه المصالح، ويتم تزاوج المصالح الخاصة والمصالح العامة، وتتسع دوائر الفساد وحجمه وتتشابك حلقاته ويزداد قهر واستبداد السلطة والدور البوليسى لها ويتضخم جهاز الداخلية وتزداد صلاحياته بلا حدود.
فى المقابل تغيب المساءلة التنفيذية والمساءلة التشريعية والمساءلة القضائية، ويتغير مفهوم المواطنة ويستفحل التضخم البيروقراطى وتضعف الحوكمة، مما يتسبب ذلك فى العديد من الظواهر الكارثية تتمثل فى القمع السياسى وزيادة حدة الفقر، استشراء فساد السلطة، اشتعال أوار الفتنة الطائفية، بيع أصول الدولة، اشتداد المد السلفى والأصولى، التمييز ضد النساء، زيادة نفوذ أقليات فاسدة تحتكر السلطة والموارد ومصادر القوة وتصادر الحريات والحقوق الأساسية للمواطن، ويتم وضع العقبات أمام تداول السلطة وتقييد عملية الترشح لتظل حكرا على الحزب الحاكم، ويأتى هذا ببرلمان موال للحكومة تؤدى تركيبته إلى زيادة حجم ممارسة الفساد من أعضائه (نواب القروض، نواب الأراضى، نواب القمار....الخ)، وتسهل استئثار رجال الأعمال بعطاءات الدولة ومشروعاتها، وتتم مباركة هذه الصفقات عن طريق السيطرة على الإعلام المرئى والمكتوب والمسموع، ويفقد القانون هيبته فى المجتمع لأن هذه الأقليات الفاسدة تضع نفسها فوق أى قوانين أو أى لوائح تعمل على تقويض امتيازاتها ونهبها المستمر، هذا نفسه نقل تأثيره الثقيل إلى المواطن العادى الذى يفقد بدوره ثقته فى هيبة القانون ولا يقوم بتقديم الاحترام اللازم له ويختلط الحابل بالنابل، وتختلط القيم الصالحة بالطالحة ويتم تبرير الممارسات الفاسدة على أنها شىء عادى بل ضرورى لاستمرار الحياة اليومية وتنتشر «الرشوة» و«العمولة» و«السمسرة» ويتم استبدالها بكلمة الحوافز أو ماء المحاياة التى أصبحت هى الإطار اللازم الذى يشكل نظام المعاملات اليومية، وينشأ ما يسمى بالفساد الصغير الذى تغض النظر عنه الطبقة الحاكمة لأنه يوسع من القاعدة الاجتماعية لنظامها دون تكلفة مباشرة على الخزينة العامة.
فالذى يتحمل عبء الرشوة والعمولة هم الأفراد وليس الميزانية العامة للدولة، ويتحول الفساد إلى إفساد جماعى يمارس فى إطاره الفساد الكبير الذى سيتداخل فيه عالم رجال الأعمال والسلطة السياسية أو يتخذ شكلا بنيويا يدمج ما بين الهيمنة السياسية والهيمنة السلطوية، ويشكل الفساد الصغير فى إطار هذا الدمج صمام الأمان لاستشراء الفساد الكبير الذى يتغلغل على مستوى المؤسسات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومنظومة القيم ككل، وتتحول ممارسات الفساد العشوائية إلى نوع من المؤسسية تؤثر على مجمل الوطن وتعرض شرعية النظام السياسى للخطر، فيزداد عنف الدولة وشراستها ويزداد الاستبداد ويستشرى الفساد مما يتطلب مزيدا من العنف وهكذا حلقة مفرغة لا تنتهى ولا تجد من يطفئ اشتعال جحيمها.
فجأة تلاطمت أمواج البحر وتبللت ملابسى من قوة الرذاذ، لعل تفكيرى فى الاستبداد، والعنف والفساد جعل الجو ينذر بهبوب عاصفة كبيرة وحرك غضب مدفون فى هذا الزبد الكثيف... أوشكت الشمس على المغيب وبدأت ألوانها الأرجوانية تكسو السماء تمنيت أن يأتى اليوم الذى يسقط فيه خلف الأفق الفاسدون والمفسدون، المستبدون والظالمون... لعله يكون يوما قريبا فروح «خالد سعيد» والآلاف من المصريين الذين طالتهم أيادى التعذيب لن تطمئن إلا بعد الاقتصاص العادل ممن قتلوهم وحرقوا قلوب المصريين عليهم.