خلال دراستى للقانون فى كلية الحقوق جامعة القاهرة، طالما استوقفتنى عبارة «قيم المجتمع ومبادئ الأسرة» التى نجدها فى نصوص عدة فى قوانين مصرية، وترد فى اتهامات النيابة العامة لإدانة من تعتقده قام بالاعتداء عليها. بالرجوع للدستور والقوانين لم أجد أى تعريف محدد للمقصود بهذه المفاهيم، وكنت وما زلت أتساءل عن مدى دستورية العقوبات الواردة بالقوانين عن «مفهوم» أو «مبادئ» وليس «فعلا محددا» أو «جريمة» محددة، أى بدون أن يكون للتهمة ركن مادى الذى لا قوام لها بغيره، ويتمثل أساسا فى فعل أو امتناع عن فعل وقع بالمخالفة لنص عقابى.
ورد فى الدستور فى هذا الشأن نص عام بدون الإحالة لقانون: «الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها» (مادة 10). ولم يرد فى قانون العقوبات أى تعريف للمقصود بهذه العبارات، فيوجد بابان بعنوان «هتك العرض وإفساد الأخلاق» و«القذف والسب وإفشاء الأسرار» يتضمنان جرائم مثل التحرش، وهتك العرض، والاغتصاب، والزنا، والتحريض على الفسق بإشارات أو أقوال، والأفعال الفاضحة المخلة بالحياء، وأوردا عقوبات لكل من هذه الأفعال. لكن لم يتم تحديد إذا كانت هذه الأفعال المقصود بها «الاعتداء على قيم المجتمع ومبادئ الأسرة». كما لا يوجد تعريف مثلا لماهية الأفعال الفاضحة فى الطريق العام أو الإشارات الجنسية.
نفس الشىء فى قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات 175 لسنة 2018، وهو القانون الذى ينظم مكافحة جرائم تقنية المعلومات، وهى الجرائم التى تُرتكب بواسطة الحاسبات أو الأجهزة الأخرى الإلكترونية وذلك عبر الشبكات المعلوماتية سواء أكانت خاصة أو عامة أو دولية. تنص مادته العقابية رقم 25 على: «يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر، وبغرامة لا تقل عن خمسين ألف جنيه ولا تجاوز مائة ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من اعتدى على أى من المبادئ أو القيم الأسرية فى المجتمع المصرى أو انتهك حرمة الحياة الخاصة».
كما جاء نفس النص المبهم فى قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلى (قانون الجمعيات) رقم 149 لسنة 2019 فى المادة 15: «يُحظر على الجمعيات القيام بالآتى: ممارسة أنشطة من شأنها الإخلال بالنظام العام أو الآداب العامة أو الوحدة الوطنية أو الأمن القومى».
توقعت أن أجد ضالتى فى تعريف محدد فى اللوائح التنفيذية لهذه القوانين للأنشطة المحظورة والتى تجافى قيم المجتمع والأسرة فلم أجد. وقد ذكرت كتب القانون التى كنت أدرسها فى كلية حقوق أن قيم المجتمع ومبادئ الأسرة واردة ضمن مفهوم أعم اسمه «النظام العام» وتعريفه هو أيضا فضفاض جدا: «مجموعة من القواعد الأساسية التى تتعلق بالمصالح العليا للمجتمع سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية». ولأن النظام العام فكرة نسبية ويختلف مفهومها باختلاف الزمان والمكان، فإن الذى يقرر الأفعال المتعلقة بالنظام العام وبالتالى تجريمها فى حال مخالفتها ليس نصا واضحا فى القانون، لكن القاضى فى المحكمة بشرط استعانته فى تقديره بواقع المجتمع والتيار العام السائد وقيمه وعدم اتباع أهوائه وفرض آرائه الشخصية وانحيازاته الأخلاقية. ولذلك يمكن أن يُجرّم نفس الفعل من قاض فى دعوى قضائية ويبرؤه قاض آخر فى دعوى أخرى.
وقد أورد هشام رمضان فى مقاله: «تهمة الاعتداء على القيم الأسرية. قراءة قانونية» فى الصحيفة الإلكترونية «درب»، 3 يوليو 2020، حكما هاما للمحكمة الدستورية العليا عن مدى دستورية المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات 175 لسنة 2018، نصت فى منطوق حكمها على أنه «يتعين على المشرع، دومًا، إجراء موازنة دقيقة بين مصلحة المجتمع والحرص على أمنه واستقراره من جهة، وحريات وحقوق الأفراد من جهة أخرى. وكان من المقرر، أيضًا، وجوب صياغة النصوص العقابية بطريقة واضحة محددة لا خفاء فيها أو غموض، فلا تكون هذه النصوص شباكًا أو شراكًا يلقيها المشرع متصيّدا باتساعها أو بخفائها من يقعون تحتها أو يخطئون مواقعها، وهى ضمانات غايتها أن يكون المخاطبون بالنصوص العقابية على بيّنة من حقيقتها، فلا يكون سلوكهم مجافيًا لها، بل اتساق معها ونزول عليها».
لذلك فإن نص المادة على هذا النحو مشوب بعدم الدستورية ويظل غامضا وغير محدد ولا يصلح كنص عقابى. وهذا فى ظنى ينسحب على كل النصوص فى القوانين الأخرى التى تتناول قيم المجتمع دونما تحديد أو تعريف أو إيضاح.
• • •
حكم المحكمة الدستورية العليا قادنى إلى التفكير فى العلاقة والفرق بين الأخلاق والقانون: ما الذى يعتبره المجتمع من النظام العام والآداب العامة وبالتالى يقع تحت طائلة القانون؟، وما الذى يُعتبر قواعد أخلاقية وهى مجموعة المبادئ والقيم المستقرة فى ضمير الجماعة ويؤدى عدم احترامها لسخط المجتمع وازدرائه للشخص المخالف وليس تجريمه قانونيا؟
فى كتاب المدخل للعلوم القانونية لدكتور، رجب كريّم، المقرّر على طلبة حقوق القاهرة، ورد الاختلاف بين الاثنين. أولا، من حيث النطاق: الأخلاق أعم وأشمل من القانون لأن الأخلاق تهتم بالنوايا ولا تكتفى بالحكم على السلوك الخارجى للشخص، أما القانون فهو يشمل مظاهر التعبير عن الإرادة البشرية وليس النوايا التى يضمرها الإنسان فى أعماق ذاته، وتُعتبر مجرّمة كلما عكست سلوكا خارجيا مؤاخذا عليه قانونا.
ثانيا، من حيث الغاية: فالقانون هدفه حفظ النظام والأمن والاستقرار عن طريق تحديد حقوق وواجبات الأفراد تجاه بعضهم، أما الأخلاق فغايتها مثالية لجعل الشخص أفضل إنسانيا.
ثالثا، من حيث الجزاء: يكون الجزاء فى القانون ماديا محسوسا متعلقا بجسم الإنسان (تقييد حريته) أو فى ماله، والسلطة العامة هى التى توقعه، لكن جزاء مخالفة الأخلاق معنوى متمثل فى تأنيب الضمير وسخط المجتمع.