سنة مضت وأخرى أتت وهم يقاومون عثرات الزمن.. وضعوا قمرهم بين ضلوعهم ومضوا..
تختلف عليهم الريح وتلم بهم العواصف والأنواء، وبريقهم مازال يشع كنجوم تتوامض فى عمق الليل، كانوا ينصتون للقادم المجهول لا يطمئنون لجهة ولا يستقرون فى مقام، يمضون مصعدين طرقا ضيقة وعرة، تتأرجح خطواتهم المتوترة فى الصمت المخنوق الدامع، تضيق عليهم الأزقة وتتسع، يروى ظمأ حلوقهم دفء قلوبهم، يتقافزون، يركضون ويفرون من مسالك الغيوم كالمد والجزر.
مشغوفون بالناس يبحثون عن أبواب لا يسدها عسكر ولا يحكمها مملوك، أبواب تفتح لهم جنة الماء وحرية الهواء، لم يعد النهار كافيا ولا قدح الروح فالوطن فى أحداقهم كمرايا البحر وظل الجبل وعند صخرة المنعطف يشمخ الوطن بهم ويشمخون به فيتسع الأفق، يجهشون لفرط تشظى المسافة بين النسيان والتذكر.. يمرون ويعبرون ليل الحنين والفتنة المحجوبة، ينسل خيط شمسهم بطيئا بطيئا، يُسكر جرح الحلم ويجلل أعطافهم، يتيهون فى شهوة، عشق الوطن.
●●●
أحلامهم لم تجد متسعا لها، فى ملعب غادر، خانتهم لعبتهم الكروية، أُغلقت عليهم الأبواب الرئيسية وأُطفئت الأنوار، حوصروا من جميع الجهات لتتم المذبحة بالسيوف والسنج والمطاوى تأديبا لهم فقد أججوا لهيب الثورة وغذوا روحها.
ماتوا فى ساعة زمن، وحملوا على المحفات فى ثلاث ساعات، جريمة منظمة مخططة تحركها غرائز سفك الدماء والتشفى والانتقام، مذبحة وحشية، مذبحة قلعة جديدة جرت على شرف سلطة العسكر وأمن الداخلية المنسحب الجبان..
الوطن يمور ويفور والمدن تحصى قتلاها وجرحاها وغراب البين ينوح.
●●●
وهناك فى ساحة انتظار محطة قطار مصر كان الحزن والكراهية والرغبة فى الانتقام مرسومين على وجوه الآلاف من المصريين.
ذهول ومرارة وهتافات تتعالى من كل مكان «يانموت زيهم يانجيب حقهم»، «الألتراس قالها خلاص، راس المشير هو الكاس»، الألتراس أهلاوى وثورى، راس المشير هو الدورى».
الجميع ينتظر القطار وهنالك بين الحشد المكلوم أم تتمنى أن يأتى ابنها مكسورت أو مشلولت ولا يأتى لها جثة هامدة وأخرى تصرخ وتلطم خديها فقد زفوا لها خبر قتل ابنها الذى لم يكمل عامه السادس عشر، وأخرى تضع أذنها على قضيب القطار عله يخبرها بما يثلج صدرها.. أمهات لم يكن لهن ليلتئذٍ إلا رائحة الموت وخبائه.
●●●
كانوا ينتظرون الحرية فحصدهم الموت بحرية، ساعة زمن واحدة انتقل اسمهم الممهور فى شهادات الميلاد إلى اسم آخر «الشهيد».
وهناك فى دار الموتى فى مشرحة زينهم كانت أصوات الصرخات تخترق الهواء الساكن، صرخات وعويل الأمهات الثكالى تدوى كفرقعات القنابل، فالموت نصب فخاخه بدهاء ووضاعة وأنت أيها «الألتراسى» مسجى على اللوح الخشبى غير نادم على بقية عمرك الذى لم ينتظرك، غير مبال بالفخ الذى نصب لك، تركت أمك تبكى من غدر الليل ومن عواء قطيع الذئاب الذى مازال يلاحق روحك..
رضيعا تعبر البرزخ مابين الظلام وشمس ساطعة، تعود طفلا وتسمو فوق الليل والأسطورة، تتخطى الزمن والمسافات والمكان وتعبر الفواصل، تتسع بك الأرض وتضيق بنا، وكمن يستبق الفاجعة وضعت صورتك لأصدقائك مزينة بشريط حداد قبل رحيلك حتى لا تثقل عليهم عناء نشرها إن حانت منيتك، تركت أمك تشق صدرها وتضرب رأسها وتئن «ابنى عريس أحضروا كفن العرس له، انثروا عليه العطر والطيب» «من يحمل نعشى بعد الممات»..
●●●
وشباب الألتراس هم فهود لا يئوبون إلى مهجع ولايختبئون من الموت إنهم جرح الوردة والقلب الذى ينبض فى نوافذ الليل، خرجوا ثائرين يريدون الثأر كأغصان رطبة ندت بشجواها وإصرارها العالمين، لايطأطئون من فرط القسوة، طال سهادهم وقل رقادهم، يقاومون ذل اليأس، يشحنون إنائهم بالعزيمة والإصرار، يجمعون الأولى والآخَر، ويصبحون هم الأصل الذى يعول عليه فى دروب الكفاح الطويلة، يؤثرون جانب النضال على جانب الرضوخ والاستكانة، سراجهم يأبى أن ينطفئ، هم المحك والمعيار، أصحاب الكشف إذا عشش الظلام، ينطقون عن سر الوطن وهم صامتون بجلال، يستجلون صورة المستقبل ويستبطنون المعانى، يخلعون على بلادهم السلام ويخلعون عنها الأذى والعار، ينادون على أرواح رفاقهم فيشرئبون، تنأى خطواتهم وتقترب، لايجأرون من الوجع ولا من جروحهم الثخينة، يتوقون للحرية ويتنشقون نسيمها، براهين قلوبهم وتحديهم الموصوم على أجرام مضيئة تدور فى فلك يتبع خطاهم وعبق رائحتهم.
يقاومون وجوه القتلة التى تغلفها الجهامة والقسوة والصرامة ويرددون «الثورة مستمرة والعسكر سيرحلون.. سيرحلون» سلام إلى الألتراسى يوم ميلاده ويوم مماته ويوم يبعث حيا فى ذاكرة الوطن.