التعليــــــــم فــــى الأنظمـــــة السلطويـــة - أمل أبو ستة - بوابة الشروق
السبت 11 يناير 2025 6:56 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التعليــــــــم فــــى الأنظمـــــة السلطويـــة

نشر فى : الإثنين 10 فبراير 2014 - 4:30 ص | آخر تحديث : الإثنين 10 فبراير 2014 - 12:52 م

أطرح السؤال الجدلى، ثم أطلب من الطلبة التفكير فى وجهة نظرهم وعرض أسبابهم المنطقية لوجهة النظر تلك فى صورة مقال.. فيأتينى السؤال الأزلى من أحد الطلبة: أى رأى تفضلين أن نتبنى؟... فأعاود التأكيد على أننى سأقبل بأى رأى وأن العبرة بعرض منطق له وجاهته... يبدو على الطالب علامات خيبة الأمل... يصمت... ويسود الصمت لبرهة فيما يبدو وكأنها محاولة من الطلبة لتكوين وجهة نظر... أتفاءل للحظات... ولكن ما يلبث أن يبادرنى طالب آخر: نفضل أن تيسرى الأمر علينا وتقولى لنا الرأى الذى تفضلينه.

لم أعد أتذكر عدد المرات التى تكرر فيها نفس السيناريو خلال سنوات عملى كمحاضرة للغة الإنجليزية والتفكير النقدى فى سبع جامعات مصرية مختلفة. لا أتذكر أيضا عدد المرات التى تركت فيها للطلبة حرية اختيار الموضوعات التى يكتبون عنها فيبدأون بالتذمر والشكوى ويطالبوننى باختيار الموضوعات بالنيابة عنهم. للحق لم أجد نفس رد الفعل فى كل المرات التى استخدمت فيها نفس الأسلوب، ولكننى وجدت تلك المقاومة للتمتع بمساحة من حرية الرأى والاختيار من الغالبية العظمى من الطلبة.

•••

والسؤال الذى كان يفرض نفسه فى كل مرة هو: لماذا؟ لماذا يرفض أى إنسان أن يكون حر الاختيار؟ لماذا تزعجهم فكرة الحرية إلى حد التنازل عنها طواعية. لماذا يفضلون أن أفرض عليهم رأيا أو اختيارا ما؟

أرى أن الإجابة تأتى فى شقين:

الأول: أن الحرية مسئولية. الحرية عملية شاقة تتطلب كثيرا من التفكير والوقت والجهد وتحمل النتائج. ماذا لو اختار موضوعا ثم اكتشف أنه موضوع يصعب عليه مناقشته؟ ألن يقع اللوم عليه وحده لأنه لم يتوخ الحذر ولم يفكر مليا قبل اتخاذ قراره؟ أما إذا اخترت أنا الموضوع فسيجد من يلومه وهو مرتاح الضمير. إذا فرضت عليه الموضوع ولم يبل بلاء حسنا سيكون من السهل عليه تفسير إخفاقه بأن الموضوع لم يكن شيقا أو غنيا بشكل كاف وأنه كان من الممكن أن يؤدى أداء أفضل لو طلب منه الكتابة عن موضوع مختلف. وبالمناسبة هذه ليست سيناريوهات من وحى الخيال، بل تعليقلت واقعية أسمعها من الطلبة حين أفرض عليهم موضوعات المقالات.

الشق الثانى من الإجابة يكمن فى ثقافة التعليم فى بلدنا وما اعتاده الطالب فى سنوات دراسته، ويكمن فى رؤيته للمطلوب منه والمتوقع من معلمه. طلبت مؤخرا من عدد من حديثى التخرج فى الثانوية العامة أن يصفوا لى تجربتهم مع التعليم المدرسى فأجمعوا على أن الدراسة فى مجملها تهدف إلى شىء واحد فقط وهو الحصول على أعلى الدرجات فى الامتحان وبما أن الامتحان يقيس قدرة الطالب على الحفظ وعلى إثبات معرفته التامة بكل ما يقدمه الكتاب المدرسى من معلومات وآراء فقد نفى جميع الطلبة الذين تحدثت معهم بلا استثناء أن يكونوا لا سمح الله يفهمون تطبيقات هذا العلم فى حياتهم. لقد أقسمت لى إحدى الطالبات أن المدرس كان يقوم بتحفيظهم خطوات العملية الحسابية دون أن يفهموا المنطق وراء تلك الخطوات. قد لا تجد جديدا فيما يقوله هؤلاء الطلبة. على الأغلب لديك ابن أو أخ يمر بنفس التجربة بينما تقرأ أنت هذه السطور. ربما أيضا تستدعى تجربتك الشخصية فى مدرستك الحكومية. ولكننى أدعوك أن تتأمل نتائج هذا النوع من التعليم، أو بالأحرى اللاتعليم.

•••

فى عام 1956 قام العالم بنيامين بلوم بترأس مجموعة من علماء النفس التعليمى Educational Psychologists وقاموا بتحديد مستويات من القدرات والمهارات الذهنية اللازمة فى أى تعليم جيد وأنتجوا لنا ما يعرف اليوم بهرم بلوم الذى يعد مرجعا أساسيا فى أنظمة التعليم الناجحة. تم إدخال تعديلات على هرم بلوم فى العقود اللاحقة وفيما يلى شكله النهائى:

وكما ترى عزيزى القارئ فالقدرة على تذكر المعلومة تأتى فى قاعدة الهرم التعليمى. فهى قدرة مهمة وأساسية فى أى تعليم ولكنها وحدها لا تعكس تعليما جيدا. فالتعليم الجيد لا يعنى فقط أن تعرف المعلومة وتملك القدرة على استدعائها وقت الحاجة ولكنك يجب أيضا أن تفهم المعلومة. فلا يكفى أن تكون قادرا مثلا على سرد تعريف مصطلح ما ولكن الأهم أن تفهم ما يعنيه التعريف.

وبعد الفهم يأتى التطبيق. فما فائدة المعلومة دون القدرة على استخدامها والاستفادة منها؟ ثم يأتى المستوى الأعلى وهو القدرة على التحليل، ويعنى القدرة على استخدام المعلومات وتطبيقاتها فى تفتيت المشاكل المركبة إلى مفردات صغيرة ليسهل التعامل معها والخروج باستنتاجات مفيدة. وإن استطاع الفرد القيام بذلك يصبح مستعدا لتقييم الحلول والتحليلات المعروضة عليه وتبين الخطأ فيها وتشكيل حكمه عليها. ثم تأتى أعلى مستويات القدرات الذهنية وهى الإبداع والقدرة على ابتكار الحلول.

وللأسف الشديد فإن النسبة الأكبر من تعليمنا تتوقف عند المستوى الأول من هرم بلوم. فالطالب سينجح فى امتحاناتنا ويحصل على أعلى الدرجات إن استطاع حفظ المعلومة وسردها فى الامتحان بغض النظر عن فهمه لها لأن الامتحان ببساطة لا يتطلب منه أكثر من ذلك. فأصبح الشغل الشاغل للمعلم هو تلقين الطالب، وإن لجأ الطالب أو المعلم للمستوى الثانى وهو الفهم يكون ذلك بهدف تسهيل الحفظ، لا أكثر ولا أقل.

كيف يؤثر ذلك على حياتنا؟ وما علاقة كل ذلك بأنظمة الحكم؟

مثل هذا التعليم يتحول الهدف منه من تخريج عقول قادرة على التفكير والتقييم وابتكار الحلول إلى تخريج عقول ذات قوالب جامدة غير قادرة – فى مجملها – على تكوين رأى باستخدام المنطق ونقد الآراء المطروحة عليها بشكل منهجى. فنصبح أمام خريج من منظومة فى الغالب لم يطلب منه يوما إبداء رأيه، وإن طلب منه ذلك يكون بشكل صورى ويتم تلقينه رأى الكتاب أو رأى المدرس على إنه الرأى الأمثل الذى يجب عليه تبنيه بلا مناقشة، بل يتم توبيخه إن حاول الاختلاف. فعلاوة على أن النقاش عيب، فإبداء الرأى مضيعة للوقت الثمين الذى يجب أن يستثمر فى حفظ المنهج. مثل هذا التعليم ينتج طالبا لا يملك أصلا أدوات تكوين الرأى وتحليله وتقييمه بشكل منهجى.

فتصبح النتيجة الطبيعية لكل هذا هو أن يصبح لديك مواطن يحتكم لعاطفته أكثر مما يحتكم لعقله، فيسهل التأثير فيه بالخطاب الدينى تارة وبسلاح الخوف على أمنه وأمن أولاده تارة وبتأجيج مشاعره الوطنية تارة، مواطن تؤثر فيه دموع التماسيح ونعيق الناعقين ونحنحة المتنحنحين، مواطن تستطيع إقناعه بأن شرف البنت يتوقف على ما إذا كانت عبايتها بكباسين أو زراير أو سوسته، مواطن يخشى من الحرية، حرية التفكير وحرية الاختيار، فيرحب بقمع الآخرين بل وبقمعه هو شخصيا وينتظر أن يختار له المسئولون تماما مثلما كان يختار له المدرس فى الفصل.

•••

فى حالة الأمثلة التى ذكرتها فى أول المقال كنت دائما ألاحظ علاقة عكسية بين مستوى المقاومة لمساحة الحرية الممنوحة للاختيار والتعبير وتكوين الرأى وبين جودة التعليم الذى تلقاه الطالب فى المدرسة، فكلما زادت جودة التعليم قلت المقاومة والعكس.

ليس هذا كله من باب جلد الذات ولكن من باب المصارحة مع النفس. تطوير التعليم ليس بالشىء المستحيل فقد أنجزته دول غيرنا فى سنوات قليلة. ولكن يبقى السؤال:

إذا كان التعليم المتدنى يسهل مهمة المسيطرين على مقاليد الحكم فى توجيه الرأى العام ومحاولة تشكيل آراء المواطنين باستخدام سلاح العاطفة حسب الحاجة، هل يصبح من مصلحة أى حاكم سلطوى الارتقاء بمستوى التعليم؟ التعليم الجيد هو مفتاح تقدم أى أمة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فهل حقا يريدون تعليمنا؟

أمل أبو ستة حاصلة على دكتوراه فى أبحاث التعليم من جامعة لانكستر بانجلترا
التعليقات