نظرات وعبرات .. فى فنون الحوارات - أحمد ماهر - بوابة الشروق
الأربعاء 1 يناير 2025 3:15 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نظرات وعبرات .. فى فنون الحوارات

نشر فى : الأحد 12 أبريل 2009 - 5:53 م | آخر تحديث : الأحد 12 أبريل 2009 - 5:53 م

 من أهم ما تتميز به الحياة السياسية أو الاجتماعية أو الأدبية وغيرها المناقشات التى تتيح للحقيقة.. وهى دائما نسبية وليست مطلقة أن تظهر على السطح فتنير الطريق إلى تحقيق تقدم ينتج عن حصيلة تفاعل الأفكار، وذلك بشرط أن يتاح الجو الهادئ لتلك المناقشات وأن تتم بأسلوب الاحترام المتبادل دون محاولات فرض أو ابتزاز أو تهديد أو تخويف، بل يروج الاشتراك فى الرغبة فى استخلاص ما هو طيب ومفيد واستبعاد الشوائب التى تشكل عقبات تمنع التوافق حتى إذا كان ذلك على الحد الأدنى ولكنه على أى حال، الحد الذى يمنع نشوب نوع من الحروب الأهلية الفكرية التى لا يخرج منها أحد منتصرا بل هى تشعل النار فى الغث والسمين أو تهيل التراب على الجميع أو تغرقهم فى الطين.

وللأسف فإن الأمر فى بلدنا لم يعد كذلك، فالاحترام المتبادل، ومقارعة الحجة بالحجة، والمجادلة بالتى هى أحسن، اختفت من لغة الحوار سواء تعلق الأمر بمستقبل هذا الوطن، وبأمر من أمور السياسة فيه، أو بنقد كتاب أدبى أو عمل فنى، أو فى مجال الرياضة، أو حتى فى مجال التعامل اليومى بين أفراد المجتمع فى أتفه الأمور أو أهمها، وأصبح النقد سلسلة من المعارك، والاختلاف صراخا بالشتائم والسخائم، والاعتراض بإلقاء ماء النار المعنوى أو باستلال السكاكين الافتراضية والمجادلة بكلام ينطلق كالسهام يستهدف الذبح الفكرى أو بتقديم بلاغات إلى الشرطة أو النيابة ترمى الطرف الآخر بالتآمر أو بالخيانة أو بسوء النوايا أو على الأقل بالجهل.

وليس بهذه الأساليب تتقدم الأمم، وليس بهذه الطرق يتم تصويب الأخطاء التى لابد أنها تقع، وليس برفض الآخر ــ وليس فقط أفكاره ــ وإدانته مطلقة فى كل ما يتحدث به ــ والذى لا يمكن أن يكون كله غثا كما يصعب أن يكون كله سمينا ــ يمكن التوصل إلى رسم خطط العمل التى تحتاج إلى توافق الجميع.. وليس بالضرورة والمنطق اتفاقهم التام، ليقدموا سواعدهم لتشارك فى بناء مستقبل هو مستقبل الجميع الذى لن يفرض بين منتمٍ لفكر أو لآخر، ولا بين فقير أو غنى، لأننا جميعا ركاب الدرجة الأولى المكيفة، كما ركاب الدرجة الثانية والثالثة، فى قطار الوطن، إما نصل إلى محطة الوصول أو تضيع منا القضبان فنضيع فى صحراوات التيه والخسران.

وإنه لمن دواعى الحزن والألم والقلق أن نرى فى تصرفات الحكومة كما فى تصرفات المعارضة، ما يخالف هذه الروح ــ التى لا تتناقض بالضرورة مع المشايعة أو المناقضة ــ وما يستسلم إلى عوامل الغضب والشك التى تؤدى إلى احتقان فى كل أعضاء الجسم يصل إلى الأعين فيمنع الرؤية السليمة والرؤى المثمرة، ويصل إلى العقل فيشوش على الأفكار ويستبدل بها مسوخا تطفو على السطح من ظلمات النفس البشرية.

كثيرا ما ينسى الجميع أن فى الأمور متشابهات، وأن من يرمى الحجر عليه أن يكون بلا خطيئة، وأن الحقيقة كثيرا ما تكون مختلطة، وعلى الحوار أن يبرز ما ينفع منها والتغاضى عما لا يخدم الجوهر والهدف.

وإذا انتقلنا أو حاولنا الانتقال من التعميم إلى التحديد، فإننا نرى مثلا أن الصحافة القومية لا تتيح ــ إلا قليلا ــ الفرصة لآراء المعارضة للظهور، وإذا أوردتها فلنقدها نقدا يتعلق بالنوايا أكثر مما يتعلق بالموضوعية، وعلى الجانب الآخر، فإن صحف المعارضة لا تجد أبدا فيما تقوم به الحكومة ما قد يستحق ولو شبهة القبول، أو حتى المناقشة الجادة لتطويره أو تحويره، أما الصحف المستقلة، فهى أحيانا ما تحاول ولكنها فى جميع الحالات هى الأفضل فى طرح آراء تتنوع حتى إذا كان هناك التزام فكرى مبدئى من نوع أو آخر.

وعندما تقرر صحيفة قومية أن تفسح مجالا لنشاط حزبى أو معارض فإنها تقرنه بنظرة سلبية والعكس بالعكس، ولعل مبالغة كل طرف فى المديح أو التقريع هى التى تدفع الجانب الآخر إلى المبالغة فى الاتجاه المخالف، وليس معنى هذا ألا يكون للإنسان رأى أو انتماء لفكر معين، ولكن معناه أن يكون على استعداد لحوار هادئ لا ينزلق إلى الهجوم الذى يمس أمورا لا تنتمى إلى الفكر أو إلى الحوار بل هى تجريح واتهامات. وهذا صحيح سواء فى المسائل الداخلية أو فى المسائل الخارجية، فإذا نادى أحد لأسباب موضوعية بالحوار مثلا مع إيران فإنه يتهم بأقذع التهم، مع أننا جميعا نعرف أن إيران لها أغراض أو أطماع أو مواقف لا تتفق مع ما نراه، ولكننا أيضا نعرف أن من حسن السياسية ــ وهو ما اكتشفته الولايات المتحدة ذاتها أخيرا ــ لمعالجة هذه الإشكالية أن يتم حوار يوضح الحدود وما هو مقبول وما هو غير مقبول، ويضع مدونة سلوك متبادل يمنع الاشتباك قدر الإمكان ويحول دون المساس بمصالحنا، وإذا كان هذا مطلوبا بالنسبة لإيران فإنه مطلوب من باب أولى مع الدول العربية لأن ما يربطنا بها لا يحتاج إلى إعادة بيان، وقد نختلف، وقد اختلفنا فى الماضى إلى حد القطيعة واقتربنا إلى حد الوحدة ثم تباعدنا إلى حد التراشق، ولكننا فى النهاية ــ وفى كل مرة ــ عدنا نبحث عن المصالح المشتركة ــ وهى كثيرة ــ فى مواجهة أعاصير تتربص من كل جانب بمفهوم وجوهر القومية العربية التى لا يروق البعض فى الخارج قريبين وبعيدين ــ أن تترجم مثلا إلى ما رأينا إرهاصاته فى قمة الكويت الاقتصادية وكل ذلك يصب فى مصلحة الجيع دون أن يمس أدوار الكبار كمصر ــ التى لا تحتاج إلى إعادة تأكيد كل يوم فهى من البديهات التاريخية والجغرافية والبشرية وحتى الاقتصادية، ودون أن يسىء إلى من هم أصغر قد يتطلعون إلى زيادة دورهم ولكن هذا لا يكون بالجمع والطرح أو الضرب والقسمة.

مثل آخر، التعامل مع المقاومة للاحتلال الإسرائيلى، فهى قد تخطئ أحيانا وتشطط أحيانا أخرى، ولكنها من ناحية المبدأ، حق بل واجب، وعلينا أن نقومها إذا أخطأت تقويم الشقيق لشقيقه ومهما كان الاختلاف فأنه لا يمس جوهر الحق الذى أقرته القوانين الدولية علاوة على المنطق والشعور الوطنى، ولا يجوز فى هذا المجال أن نتحدث عما قادت إليه المقاومة من خسائر فى صفوف الشعب الذى تنتمى إليه، لأنه معروف أن المقاومة أضعف دائما مما تقاومه، ولكن يكفى أنها توجعه وقد رأينا كيف أن الإمبراطوريات اضطرت إلى التخلى عن فريساتها التى قاومتها سواء سلبيا أو بالقوس والنبل قبل البندقية والقنبلة. صحيح من حقنا أن ننصح ــ بل هو من واجبنا ومن دورنا ــ كما نفعل الآن.

أن نعمل على توحيد القوى الفلسطينية وهو جهد يجب أن ينجح لأنه الوسيلة الوحيدة للاستفادة من واقعتين جديدتين هما ظهور حكومة كريهة فى إسرائيل، وتولى إدارة عاقلة فى واشنطن، علاوة على جوهر القضية الذى يتعزز بوحدة قوى النضال ووحدة المواقف العربية الأساسية التى تقررت فى بيروت منذ سنوات، والتى يجب الحفاظ عليها بعيدا عن اتهامات التخوين والتشكيك التى يجب معالجتها أولا بأول عن طريق حوار من النوع الذى حاولت إيضاحه فى هذا المقال وليس عن طريق حوار الطرشان الذى يجرى على الألسنة دون أن يصل إلى الآذان أو العقول، أو ينتهى إلى مجرد تبويس اللحى.

أحمد ماهر  وزير خارجية مصر الأسبق
التعليقات