نشرت مدونة ديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا بتاريخ 15 مارس للكاتبة مها يحيى، تناولت فيه عدم تعامل الولايات المتحدة مع تحديات المنطقة بسياسات متماسكة على الرغم من ترابط التحديات التى تواجهها واشنطن فى المنطقة.. نعرض منه ما يلى.
استكملت الولايات المتحدة، فى السنة الأولى من عهد إدارة بايدن، السياسة التى انتهجتها الإدارتان الأمريكيتان السابقتان وقوامها خفض الالتزامات العسكرية الأمريكية فى الشرق الأوسط وضمان الاستقرار الإقليمى، وركزت إدارة بايدن على هدفَين محددَين: أولا، إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. وثانيا، التركيز على مكافحة الإرهاب، ولا سيما الأعمال الإرهابية التى من شأنها تهديد الأراضى الأمريكية.
لكن المشكلة الأساسية هى أن الإدارة الأمريكية ماضيةٌ فى تنفيذ كلٍ من هذه الأهداف من دون احتساب أثرها على بعضها بعضا. فالتحديات التى تواجهها واشنطن فى المنطقة مترابطة بشكل وثيق، إلا أن سياساتها ليست كذلك. لذا، قد تتسبب التدابير التى تتخذها لتحقيق مجموعة معينة من الأهداف بانعكاسات من شأنها عرقلة أهدافها الأخرى، ما يُسهم فى تقويض استراتيجية واشنطن.
• • •
إرساء الاستقرار فى المنطقة. ثمة تناقضات بين الهدف الأمريكى الأساسى المتمثل بإنشاء بيئة إقليمية مستقرة، بالتزامن مع تقليص الوجود العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط. ففى ضوء تفكك النظام الذى فرضه السلام الأمريكى الذى ساد بعد الحرب الباردة فى المنطقة، لم تُطلق واشنطن أى مسار يرمى إلى ملء الفراغ الذى تخلفه وراءها.
نتيجة لذلك، تبنت دول المنطقة تعريفا أوسع لأمنها القومى ونفوذها، وذلك من خلال التدخل فى تحديد النتائج العسكرية والسياسية فى بلدان أخرى يقع بعضها على مسافة جغرافية بعيدة منها. وأصبحت المنطقة، نتيجة هذه التدخلات، أقل تماسكا وأكثر تشرذما، ولا تزال آفاق تحقيق الاستقرار فيها بعيدة المنال.
وعلى مستوى العلاقات بين القوى العظمى، فالفراغ الأمنى الذى يخلفه الأمريكيون فى الشرق الأوسط سمح للصين وروسيا، الخصمَين الأساسيين للولايات المتحدة على الساحة العالمية، بتحقيق مكاسب عدة. قد لا يبقى هذا التطور بالضرورة من العوامل المُخلة بالاستقرار فى المدى الطويل ــ إذ إن الترتيبات بين القوى العظمى قد تؤدى فى نهاية المطاف إلى التخفيف من حدة التشنجات فى المنطقة ــ لكن فى الوقت الراهن، غالب الظن أنه سيحول الشرق الأوسط إلى ساحة مواجهة، ولا سيما بعد الغزو الروسى لأوكرانيا فى فبراير 2022.
يُعتبر تجاهل قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان أحد العيوب البارزة التى تشوب عملية خفض الالتزامات الأمريكية فى الشرق الأوسط. صحيحٌ أن هذه المسائل لم تكن مطلقا فى رأس قائمة الأولويات التى تتوخاها واشنطن فى المنطقة، لكن الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان شكل جانبا أساسيا من جوانب الهوية الأمريكية، ويعتبره المسئولون الأمريكيون ضروريا لتحقيق الاستقرار الاجتماعى والسياسى.
لقد تراجعت قدرة واشنطن على الدفع نحو التغيير الديمقراطى، فى ظل التغليب الدائم للمصالح على القيم. ونتيجة لذلك، تحولت قيمٌ غالبا ما اعتبرتها الولايات المتحدة مهمة، مثل وضع حدٍ لحالة الإفلات من العقاب عن الجرائم المُرتكَبة، إلى مجرد كلام فارغ فى نظر المنطقة. مع ذلك، يبقى التغاضى عن الجرائم التى يُفلت مرتكبوها من العقاب محفزا أساسيا للتململ الاجتماعى والشعور بالسخط. وينطبق ذلك بصورة خاصة فى سوريا، حيث ارتكب نظام بشار الأسد جرائم مروعة خلال النزاع الدائر فى البلاد، ما تسبب بموجة لجوء كبيرة. وفيما بدأت دول عربية حليفة للولايات المتحدة تطبيع علاقاتها مع النظام السورى، بموافقة ضمنية من واشنطن، يبدو أن ما من اكتراث فعلى بمحاكمة المسئولين السوريين. ويغيب أيضا الزخم اللازم لتسوية أزمة اللاجئين، التى سيحاول النظام السورى استغلالها ليفرض على الدول المجاورة التى تستضيف أعدادا كبيرة منهم تطبيع علاقاتها معه. ولكن هذا الانخراط مع سوريا يقوض الجهود الأمريكية الرامية إلى استخدام ورقة الضغوط الاقتصادية لانتزاع تنازلات من نظام الأسد.
الاتفاق النووى المتقطع مع إيران. لم تسفر المفاوضات التى تستضيفها فيينا لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة عن أى نتائج حتى الآن. وفى غضون ذلك، تواجه الولايات المتحدة تحديا مزدوجا يتمثل فى فتح حوارٍ مع إيران من جهة واحتوائها من جهة أخرى. فى الوقت الراهن، ليس واضحا بعد ما إذا كانت طهران ستلتزم من جديد بالشروط التى فرضها الاتفاق. وفى حال لم يتم التوصل إلى اتفاق واقتربت إيران من مرحلة تصنيع سلاحٍ نووى، ستسعى الدول المحيطة بها على الأرجح إلى تطوير برامجها النووية الخاصة، وقد تزداد احتمالات تنفيذ إسرائيل هجوما على المنشآت النووية الإيرانية. وغالب الظن أن يؤدى ذلك إلى تداعيات كارثية تلقى بظلالها على المنطقة، وهذا تحديدا ما تسعى واشنطن إلى تجنبه من خلال استئناف العمل بخطة العمل الشاملة المشتركة.
ولكن، هل سيتحقق الاستقرار إذا استؤنِف العمل بالاتفاق النووى، أو حتى إذا تم التوصل إلى اتفاقٍ أقل طموحا ينص على تعليق إيران تخصيب اليورانيوم مقابل إعفائها من بعض العقوبات؟ كلا، على الأرجح. فغالب الظن أن تخفيف العقوبات سيُدر تمويلا إضافيا لحلفاء إيران وأذرعها فى المنطقة.
وتكمن المفارقة فى أن التوصل إلى اتفاق يرمى إلى تجنب حدوث سباق تسلح فى المنطقة، وبالتالى إلى توطيد الاستقرار الإقليمى، قد يؤدى فى الواقع إلى قدر أقل من الاستقرار، وبالتالى إلى زيادة عمليات شراء الأسلحة. فما يتجاهله صناع السياسات الأمريكيون هو أن إيران، بعد عقود من المواجهة مع الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية، باتت تضع نُصب أعينها هدفا أساسيا هو الحفاظ على بقاء نظامها القائم وعلى ديمومة منظومتها السياسية والاجتماعية. ولضمان ذلك، ترى طهران أن عليها الحفاظ على النفوذ الذى اكتسبته فى عددٍ من الدول العربية.
إبعاد شبح التطرف. لا تزال مكافحة الإرهاب فى صُلب الأولويات الأمريكية فى الشرق الأوسط. لكن إذا اكتفت إدارة بايدن بتناول هذه المشكلة من زاوية أمنية وحسب، فستكرر بذلك أخطاء الإدارات السابقة. واقع الحال أن صناع السياسات لطالما استخفوا بقدرة المجموعات المتطرفة على استغلال مشاعر الإقصاء السياسى والتهميش الاجتماعى والاقتصادى. وحين تتناول الولايات المتحدة مسألة الإرهاب بمعزل عن الديناميكيات الإقليمية فهى تركز على تجليات العنف، وليس على الأسباب الكامنة التى تدفع كثيرين نحو التطرف. وللأسف، تتعدد العوامل التى ستؤدى فى بعض الحالات إلى حشد المجموعات المتطرفة العنيفة دعما شعبيا متناميا، وأبرزها مشاعر السخط الاجتماعى الناجمة عن التوترات والصراعات الإقليمية المتواصلة، وفقدان ثقة الشعوب فى قادتهم السياسيين وفى مؤسسات الدولة، وتسييس الانتماءات الطائفية.
إذًا، من غير المجدى الاكتفاء بمكافحة الإرهاب من دون السعى إلى اجتراح حلول طويلة الأجل. فبعد أن يُمنى تنظيم متطرف ما بالهزيمة، ينبغى التركيز على تكثيف البرامج التى تُساعد على إرساء الاستقرار فى المرحلة اللاحقة، وذلك عبر اتخاذ خطوات عدة أبرزها: تحسين الحوكمة، وإطلاق عمليات إعادة إعمار عادلة ومنصفة، وإعادة دمج السكان الذين عاشوا تحت نير هذه الجماعات فى دولهم عبر توفير فرص مناسبة لهم. قد لا تكون الولايات المتحدة مستعدة للقيام بذلك فى الوقت الراهن، لكن استراتيجيتها لمكافحة الإرهاب ستتضرر نتيجة تقاعسها عن ذلك.
• • •
ما المسارات المتاحة للخروج من متاهة التناقضات التى تنطوى عليها السياسة الأمريكية فى الشرق الأوسط؟ تقتضى الخطوة الأولى والأساسية مراجعة السياسات العامة لضمان أن تكون متناسقة مع بعضها البعض. يُشار فى هذا الصدد إلى أن الولايات المتحدة تمتلك جميع آليات صنع السياسات، لكن عملية صنع القرار فى الشرق الأوسط تفتقر إلى التماسك. لكن، نظرا إلى تشابك أبرز قضايا المنطقة بعضها ببعض، لا يمكن للإدارة الأمريكية معالجة قضية واحدة بمعزل عن الأخرى.
لذا، يجب أن ترتكز هذه المقاربة المتكاملة على رُكنَين أساسيَين: أولا، فيما تحول الولايات المتحدة نطاق اهتمامها العالمى نحو التنافس مع الصين، عليها العمل على ملء الفراغ الذى تخلفه فى الشرق الأوسط. وثانيا، يجب أن تنكب واشنطن على معالجة النزاعات القديمة، من خلال اجتراح أفكار جديدة ربما، كى لا تقوض هذه القضايا الشائكة الأولويات الأمريكية فى المنطقة.
ويقتضى المسار الأول أن تعمل الولايات المتحدة مع حلفائها وخصومها على السواء من أجل وضع الأسس التى تُبنى عليها منظومة أمنية إقليمية تسهم فى تعزيز آفاق التنمية فى المنطقة. وعلى الرغم من الخلافات القائمة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، فإن جميع هذه الأطراف تُجمع على ضرورة ضمان الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
أما المسار الثانى من المساعى الأمريكية فيمكن أن يستند إلى جولات الحوار الإقليمى الراهنة من أجل تعزيز المبادرات التى ترعاها دول المنطقة. ففيما تتابع مفاوضات خطة العمل الشاملة المشتركة مسارها الطبيعى، على واشنطن أن تدعم مثلا المفاوضات السعودية ــ الإيرانية المتواصلة. فالرياض وطهران منخرطتان فى جولة محادثات جديدة يرعاها العراق، ويمكن للولايات المتحدة العمل على تقوية الموقف السعودى وضمان التوصل إلى نتيجة من شأنها إرساء الاستقرار فى المناطق التى تُعتبر ساحات مواجهة إقليمية. وهكذا، ستنجح واشنطن فى تهدئة مخاوف الكثير من العرب من خلال طمأنتهم بأن إعادة إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة لن يأتى على حساب تقويض مصالح الدول العربية.
ويمكن أن ينطوى المسار الثالث من الجهود الأمريكية على بلورة أفكار جديدة للمساعدة فى حل النزاعات القديمة والمتمادية. فلأنها عالقة فى دوامة التكرار، قد يُخيَل للبعض أن هذه الصراعات يمكن احتواؤها بسهولة. هذا صحيحٌ، لكن إلى حدٍ ما. والمثال الأبرز على هذه النزاعات المديدة التى لا تزال تُحدث ارتدادات إقليمية هو الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلى الذى أنتج دولة قائمة على نظام الفصل العنصرى (الأبارتيد) تسمح بانتهاك حقوق الفلسطينيين على نحو سافر، ما يؤدى إلى تداعيات إقليمية لأنه يسهم فى تعميق الخصومات بين دول المنطقة. لذا، يتعين على واشنطن تبنى رؤية جديدة لحل هذا الصراع، بعيدا عن اتفاقيات أوسلو، وذلك من خلال اعتماد نهج قائم على ضمان حقوق الشعب الفلسطينى التى لا يمكن التنازل عنها.
النص الأصلى هنا