نشرت مدونة «ديوان» الصادرة عن مركز كارنيجى للشرق الأوسط مقالا للكاتب «خليل الحريرى» يتناول فيه قضية إعادة الإعمار فى سوريا ومستقبل البلاد.. وضرورة ألا يقود النظام السورى عملية إعادة الإعمار حتى لا ينكل بالسكان فى المناطق التى ثارت ضده.
فيما يبدو أن النزاع المسلح فى سوريا يصل إلى خواتيمه، باتت المسائل المتعلقة بإعادة الإعمار محور النقاشات حول مستقبل البلاد. وترتدى هذه النقاشات أهمية أكبر على ضوء إطار الإنماء المُدنى الذى أرساه نظام الرئيس بشار الأسد خصيصا لهذه العملية.
ومن بين القوانين والمراسيم التى أصدرها نظام الأسد، أثار القانون رقم 10 موجة انتقادات واسعة، لأنه يُجيز للنظام مصادرة أملاك الناس فى مناطق تنظيمية محددة. فى المقابل، ينص هذا القانون على أن يصبح مالكو العقارات مساهمين فى شركات تطوير عقارى خاضعة للنظام إذا تمكنوا من «إثبات ملكيتهم» لعقاراتهم.
ويكشف القانون رقم 10 عن وجود أوجه شبه بين مقاربة النظام السورى، وبين عملية إعادة إعمار وسط مدينة بيروت التى لحق بها دمار هائل خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية. ففى بيروت، منحت الحكومة شركة «سوليدير» العقارية الخاصة الحق الحصرى فى تطوير وإعادة إعمار وسط المدينة. ونتيجة لذلك، اضطُر أصحاب الأملاك الأفراد إلى الاختيار بين امتلاك حصص فى «سوليدير» أو بيعها بقيمة أدنى بكثير من قيمة العقار الفعلية.
***
لا تقتصر أوجه الشبه بين التجربتين اللبنانية والسورية فى مجال إعادة الإعمار على ذلك فحسب: ففى سورية، يمهد النظام إلى طرد السكان الذين ثاروا ضده أو منعهم من العودة إلى ديارهم. يُشار على سبيل المثال إلى أنه سمح بتدمير مناطق السكن العشوائى فى ريف دمشق بحجة التجديد المُدنى. لكن الأحياء التى استهدفها التدمير كانت تلك التى شهدت احتجاجات ضد النظام.
أما فى لبنان، فلم يُستخدم الإنماء المُدنى لتعزيز هيمنة النظام، بل كوسيلة فى يد العديد من الأحزاب السياسية والمنظمات لفرض نفوذها على مناطق معينة، وإقصاء بعض المجتمعات المحلية. ويتجلى ذلك بشكل خاص فى ضواحى بيروت. لقد رسم منطق الحرب معالم التخطيط العُمرانى فى كلٍ من حى ماضى وصحراء الشويفات ودوحة عرمون، إذ لم تشكل هذه المناطق الطرفية مجرد مساحات لإقامة مشاريع تطوير عقارى، بل اعتُبرت أيضا أراضٍ أو خطوطا أمامية لخوض الحروب المُقبلة. لذا، تم التعامل مع التخطيط على أنه أداة إنماء ونزاع فى الوقت نفسه.
فى حى ماضى، لا تزال آثار الدمار الذى خلفته الحرب الأهلية واضحة للعيان حتى يومنا هذا على الرغم من الطفرة التى شهدها قطاع البناء فى المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية. ويعود السبب جزئيا إلى أن الكنيسة المارونية اشترت أراضٍ هناك للحؤول دون بيعها إلى شركات تطوير عقارى مملوكة لغير المسيحيين، وتحديدا للشيعة فى حالة حى ماضى. ونظرا إلى أن الكنيسة لا تملك الأموال اللازمة لترميم الأبنية المدمرة، بقى الدمار إلى أن عرضت شركات تطوير عقارى مملوكة للمسيحيين شراء هذه الأراضى.
وفى صحراء الشويفات، تنافست الأحزاب السياسية بشراسة على تقسيم المنطقة. وإذا ما أخذنا فى الاعتبار المسار الشاق لتعديل قوانين تقسيم المناطق فى لبنان، يبدو من الملفت أن التقسيم الخاص بصحراء الشويفات عُدل ثمانى مرات بين العامَيْن 1996 و2008، ما يجسد النزاع المحتدم على هذه المنطقة. وخلال السنوات التى تلت الحرب الأهلية، اعتبر كلٌ من حزب الله، وحركة أمل بدرجة أقل، أن صحراء الشويفات تشكل امتدادا لضاحية بيروت الجنوبية، معقل الشيعة، لذا سهلا عملية تطوير مشاريع سكنية مُيَسَرة فى المنطقة. وواقع الحال أن حزب الله سعى إلى تصنيف صحراء الشويفات منطقة سكنية لذوى الدخل المنخفض والمتوسط.
من جهة أخرى، سعى الحزب التقدمى الاشتراكى ذات الغالبية الدرزية إلى الإبقاء على صحراء الشويفات كمنطقة صناعية وزراعية، فى خطوة هدفت جزئيا إلى كبح تدفق الشيعة إلى منطقة كانت معروفة تاريخيا بأنها مملوكة للدروز. واللافت هو أنه عقب الاشتباكات المسلحة فى مايو 2008 بين تحالف 14 آذار (الذى يضم تيار المستقبل والحزب التقدمى الاشتراكى) وتحالف 8 آذار (الذى يضم حزب الله وحركة أمل)، بات خبراء التنظيم المُدنى وأعضاء المجلس البلدى فى صحراء الشويفات يقاربون عملية التخطيط من منظور طائفى وسياسى أكثر صراحة من السابق. فقبل العام 2008، كانوا يستخدمون مصطلحات تقنية فى الغالب لشرح التغييرات التى طالت تقسيم المناطق.
أما دوحة عرمون، التى تقع جنوب بيروت وتُعتبر امتدادا لبيروت الغربية ذات الغالبية السنية، فقد تم تخصيصها للاستثمار فى البنى التحتية من قبل حكومة رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريرى. خلال السنوات الأخيرة، وفى أعقاب اشتباكات مايو 2008، أصبح مالكو العقارات وأعضاء المجلس البلدى فى المنطقة، ومعظمهم من الدروز، أكثر ترددا فى السماح بالاستعانة بشركات تطوير عقارى مملوكة من الشيعة، اعتبروها على ارتباط بحزب الله. فعلى سبيل المثال، شجع بعض مسئولى البلديات مالكى العقارات الدروز على بيع أملاكهم للسنة وليس للشيعة.
***
تُظهر الدروس المستقاة من لبنان فى مرحلة ما بعد الصراع أنه حتى عند انتهاء أعمال العنف، يمكن للجهات الفاعلة السياسية إما أن تعاقب وإما أن تكافئ فئات معينة من السكان عبر آليات الدولة الرسمية أو السوق. وفى سورية، لم يتوانَ النظام عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية لقمع الثورة، لذا من الطبيعى أن يستخدم سلطة الدولة لضمان ألا يثور السكان المعارضون مجددا فى المستقبل.
لهذا السبب تحديدا، لا يمكن الوثوق بنظام الأسد لقيادة عملية إعادة إعمار سورية. وينبغى أن تسبق هذه العملية تسوية سياسية ترتكز على العدالة الانتقالية وسيادة القانون. ففى غياب تسوية مماثلة، سيعتبر النظام إعادة الإعمار فرصة لمواصلة حربه ضد شريحة كبيرة من الشعب السورى بوسائل أخرى.
النص الأصلى:
https://bit.ly/2x8X4rO