نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتب حارث حسن، جاء فيه ما يلى:
فى 11 نوفمبر، استقبل آية الله العظمى على السيستانى ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة فى العراق جانين هينيس بلاسخارت، ورحب بالخطة الإصلاحية التى قدمتها بلاسخارت استجابة للتظاهرات التى تشهدها بغداد والمدن العراقية الجنوبية منذ أسابيع عدة، ثم أعرب عن قلقه من «ألا تكون لدى الجهات المعنية جدية كافية لتنفيذ أى إصلاح حقيقى». كذلك، أشار السيستانى إلى أنه إذا لم تكن هذه الجهات «قادرة على إجراء الإصلاحات اللازمة، أو لم تكن تريد ذلك، فلا بد من التفكير بسلوك طريق آخر فى هذا المجال».
يُعتبر هذا أقوى موقف للسيستانى منذ اندلاع شرارة الاحتجاجات، ما دفع العديد من العراقيين إلى التفكير بما يمكن أن يكون عليه هذا «المسار البديل» الذى تحدث عنه آية الله.
احتل السيستانى مكانة مركزية ومرموقة فى السياسة الشيعية العراقية، وكان يحظى باحترام الأحزاب جميع التى اعتبرته مرجعا أخلاقيا أعلى، وفى بعض الأحيان السلطة العليا غير الرسمية. كما لعبت فتاويه وبياناته أدوارا مهمة فى دعم أو إضفاء الشرعية على مسارات عمل محددة، سواء تمثل ذلك فى دعوته لإجراء انتخابات مبكرة فى العام 2003 بعد الاحتلال الأميركى، أو فى النصيحة التى قدمها لحزب الدعوة عام 2014 لاختيار رئيس وزراء جديد، أو فى الفتوى التى دعا فيها العراقيين إلى الانضمام إلى الحرب ضد الدولة الإسلامية.
بات اللجوء إلى السيستانى فى أوقات الشدة أمرا شائعا خلال فترة ما بعد العام 2003، انطلاقا من الاعتبار أن كلامه سيحظى بطاعة معظم الشيعة العراقيين. وعلى الرغم من إدراكه ذلك تمام الإدراك، إلا أنه حرص بشكل كبير على عدم استنفاد رصيده بالسياسات الهامشية وحصر تدخله على المواقف الأكثر خطورة. لهذا السبب، عبرت تصريحاته الأخيرة المتعلقة بالاحتجاجات عن مدى إدراكه بجدية للوضع الراهن فى العراق، ما دفعه إلى الخروج من عزلته وتقديم رسالته شخصيا، بعد خطب عدة ألقاها العديد من ممثليه فى كربلاء فى صلاة الجمعة.
***
لكن أى تدقيق فى سجل السيستانى يظهر أنه لم يتبنَ أبدا موقفا لا يكون مقبولا أساسا من شريحة واسعة من العراقيين، كما لم يطرح اقتراحات واضحة حول كيفية تغيير الوضع القائم. فهو ينتقى كلماته بعناية لتفادى إلقاء السلطات الدينية بين براثن النزاعات الفئوية. وقد حذر مرارا من أن الوضع القائم غير مستدام بسبب الفساد المستشرى وفشل الأحزاب العراقية الحاكمة. مع ذلك، يُعتبر اقتراحه الحالى بمثابة نداء إلى هذه الأحزاب كى تتبنى الأجندة الإصلاحية. فعبر تأييده اقتراح ممثلة الأمين العام للأمم المتحدة، أقر السيستانى بأنه يجب إشراك طرف ثالث فى صياغة خطة إصلاحية جدية. كما أن تفضيله لخطوة تقودها الأمم المتحدة يتناغم مع الموقف الذى اتخذه بعد العام 2003، والذى اعتبر فيه أن منظمة الأمم المتحدة هى الهيئة المحايدة والشرعية الوحيدة التى يمكن أن ترسم معالم العمليات الدستورية والسياسية العراقية.
تمثل الحركة الاحتجاجية، التى تركزت حتى تاريخه على المناطق ذات الغالبية الشيعية، التهديد الأخطر لنظام تُهيمن عليه المجموعات الإسلامية الشيعية. لقد أفادت المرجعية الدينية فى النجف من النظام القائم، عبر حصد المزيد من الاستقلالية والمصداقية، وتمظهر ذلك من خلال مجموعة جديدة من التنظيمات والأعراف التى رسخت هيمنتها على المشهد الدينى. لكن السيستانى سعى أيضا إلى تمييز نفسه عن سائر السياسيين عبر لعب دور الوسيط بين الدولة والمجتمع، وهو دور توطد بسبب ضعف المجتمع المدنى الناجم عن سنين طويلة من السلطوية، والاقتتال الداخلى، وهيمنة القطاع العام.
حافظ السيستانى على رصيده الاجتماعى من خلال الإبقاء على انخراطه فى السياسة عند حده الأدنى. مع ذلك، تمكنت جهات فاعلة أخرى من تعزيز نفوذها من خلال زرع فصائلها داخل العملية السياسية ومؤسسات الدولة. واليوم، ثمة ثلاثة لاعبين أساسيين فى السياسة الشيعية: السيستانى، مقتدى الصدر، الذى يرأس أكبر كتلة فى البرلمان ويقود حركة شعبية قوية، والمحور الموالى لإيران، الذى يضم عددا من الأحزاب والمجموعات شبه العسكرية التى غالبا ما تتبع قائد فيلق القدس فى الحرس الثورى الإسلامى، قاسم سليمانى. كما يُعتبر ترشيح عادل عبدالمهدى لمنصب رئيس الوزراء فى العام 2018 نتيجة لتسوية غير رسمية بين هؤلاء اللاعبين، والتى تم إضفاء طابع رسمى عليها فى اتفاق أُبرم بين الكتلة الانتخابية «سائرون» بقيادة الصدر وكتلة الفتح، وهى الجناح السياسى للمحور الموالى لطهران، بدعم من الحزب الديمقراطى الكردستانى، أكبر مجموعة غير شيعية.
سعى المهدى، الذى يُدرك هذه الحقيقة والذى لا ينتمى إلى أى حزب، إلى إرضاء هذه الأطراف المختلفة، من خلال زعمه بأنه سيتبع دعوة السيستانى إلى الإصلاح، بينما يتبنى فى الوقت نفسه سياسات غير متسقة، وإجراء تعيينات تهدف إلى إرضاء الصدر وسليمانى والحزب الديمقراطى الكردستانى. لكن انتهى به المطاف بشل حكومته وتقويض قدرتها على تطبيق أى إصلاحات جادة.
مع ذلك، أدخلت الحركة الاحتجاجية لاعبا جديدا إلى اللعبة، ألا وهو الشارع العراقى. فمطالبها المتمثلة فى وضع حد للتوزيع الإثنى والطائفى والحزبى لمؤسسات وموارد الدولة، وكذلك رغبتها فى إسقاط الحكومة، تهدد توازن القوى نفسه الذى أفرزته حكومة عبدالمهدى. وفى الوقت الذى يحتسب فيه كل طرف رئيس ردوده ويدفع فى الاتجاه الذى يخدم مصالحه، تبدى عجز عبدالمهدى على نحو مطرد.
***
فى بادئ الأمر، تبنت المجموعات الموالية لإيران مقاربة أمنية، وقيل إنها لعبت دورا مهما فى محاولة قمع المتظاهرين. أما الصدر فسعى إلى ركوب موجة الاحتجاج فى البداية أو على الأقل البروز كحاميها. وفى مرحلة ما، وعلى وجه الخصوص بعد الهجمات التى استهدفت مقر الميليشيات المتحالفة مع إيران فى 25 أكتوبر، برزت إمكانية حدوث تصعيد قد يؤدى إلى اندلاع حرب أهلية بين الشيعة، خاصة بين الميليشيات المتحالفة مع إيران وبين الصدريين.
خوفا من اندلاع هذه الحرب وانهيار النظام الذى استثمروا فيه كثيرا، قيل إن الإيرانيين عقدوا اتفاقا لمواصلة دعم عبدالمهدى باعتباره أهون الشرور فى الطبقة السياسية. أما الصدر فقد تراجع، وباتت استراتيجيته الحالية تتمثل على ما يبدو فى دحر الإيرانيين للمحافظة على نفوذه وتعزيزه.
هنا برز دور السيستانى. فقد وردت تقارير فى بادئ الأمر مفادها أن ابنه محمد رضا، الذى يتمتع بنفوذ، كان جزءا من اتفاق تم بوساطة إيرانية. بيد أن مكتب السيستانى لم يُنكر هذه التقارير وحسب، بل عَمَد بعدها إلى عقد اجتماع مع ممثل الأمم المتحدة، وإلى إصدار البيان الذى ألمحنا إليه سابقا.
يدرك السيستانى أن شرعية النظام لحقت بها أضرار فادحة، والإصلاحات الجدية وحدها يمكن أن تُضعف قبضة القوى السياسية المهيمنة على السلطة والموارد، ما يساهم فى سد الفجوة بين الدولة العراقية وبين الشارع. كما يُدرك أن السماح لإيران بالتوسط لإبرام اتفاقات بين الفصائل العراقية، وبالتالى رسم المسار السياسى للبلاد، سيواصل حرمان النجف من سلطتها. ومن خلال الاصطفاف بشكل أوضح إلى جانب المتظاهرين، أقدم السيستانى على أكثر خطواته جرأة حتى الآن، وقد تؤدى نتائجها إلى رسم معالم ميزان القوى داخل المجتمع الشيعى والسياسة العراقية خلال السنوات المقبلة.
النص الأصلي