مرحلة الانهيار - من الفضاء الإلكتروني «مدونات» - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:42 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مرحلة الانهيار

نشر فى : الأحد 24 مايو 2020 - 5:35 م | آخر تحديث : الأحد 24 مايو 2020 - 5:35 م

نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتبة مهى يحيى تناولت فيه فشل لبنان فى تقديم خطة اقتصادية ومالية للحصول على الدعم الخارجى بسبب تضارب الخطة مع مصالح النخبة السياسية فى لبنان... جاء فيه ما يلى:

دخل لبنان مرحلة الانهيار. اقتصاده ينفجر، ويترافق ذلك مع زعزعة الاستقرار الاجتماعى. قد تكون تداعيات هذه الكارثة أشد وطأة من الحرب الأهلية التى استمرت خمسة عشر عاما. ومع أن السياسيين يدركون فداحة الأزمة، إلا أنهم انتهزوا فرصة الإغلاق التام الذى فرضه تفشى فيروس كورونا لتصفية حسابات قديمة والعودة مجددا إلى المشهد السياسى بعدما اصطدموا بالرفض الشعبى لأشهر عدة.
يواجه اللبنانيون عاصفة هوجاء من التحديات. فإضافة إلى الأزمة السياسية، تعانى البلاد أزمة ثلاثية على مستوى المالية والنظام المصرفى وسعر الصرف. وقد أقرت الحكومة أخيرا بأن مجموع الخسائر المتراكمة فى القطاع المصرفى لوحده بلغ 83 مليار دولار. والليرة اللبنانية فى حالة سقوط حر، إذ يجرى التداول بها عند حدود 4000 ليرة للدولار الواحد، فى حين أن سعر الصرف الرسمى هو 1500 ليرة. وتُظهر التقارير الأخيرة عن مؤشر أسعار الاستهلاك أن أسعار بعض السلع الأساسية ارتفعت بنسبة تفوق 60 فى المئة منذ شهر مارس الماضى. ووفقا للتقديرات الحكومية، بلغ معدل التضخم 25 فى المئة فى العام 2020.
يتخبط الاقتصاد فى حالة ركود شديد، ويعانى القطاع الخاص من شح السيولة بسبب الضوابط غير الرسمية لتقييد حركة الرساميل (أو الكابيتال كونترول)، التى يفرضها القطاع المصرفى الذى يفتقر إلى السيولة وربما أيضا إلى الملاءة، فى ظل الانخفاض الحاد فى إيرادات الدولة. لذا، ثمة حاجة إلى رزمة من الإجراءات التحفيزية لتحريك الاقتصاد، لكن لا بوادر حتى الآن لإطلاق رزمة من هذا القبيل.
ليست هذه الأزمة وليدة أشهر من الاحتجاجات ضد الطبقة السياسية، ولا نتاج التدابير التى اتُخِذت لمكافحة فيروس كورونا. بل هى نتيجة سوء الإدارة والفساد المُستشريَين فى السياسة والاقتصاد منذ عقود طويلة، بدعمٍ من المنظومة الطائفية لتقاسم السلطة.
***
يسود منطقٌ عقيم فى البلاد منذ سبعة أشهر. فبما أن لبنان يحتاج إلى ضخ فورى للسيولة بالدولار الأميركى دعما لاقتصاده، يتعين على الحكومة تقديم خطة اقتصادية ومالية يُعتد بها تستطيع من خلالها التفاوض على الدعم الخارجى، ولا سيما مع صندوق النقد الدولى باعتباره المؤسسة الوحيدة القادرة على توفير دعم مالى فورى للموازنة. وقد يؤدى الحصول على موافقة صندوق النقد إلى فتح الباب أمام تلقى مساعدات من جهات أخرى، بما فى ذلك الاتحاد الأوروبى.
لكن صندوق النقد الدولى لن يبدى تجاوبا إلا فى ظل خطة إصلاحية شفافة وقابلة للقياس. وفى هذه النقطة تحديدا، لايزال لبنان مترددا. فالسياسات المطلوبة لمعالجة المشكلات الهائلة التى يتخبط بها تشمل خفض نفقات القطاع العام، ووضع حد للهيمنة على مؤسسات الدولة، ولعل الأهم هو إصلاح قطاع الكهرباء الذى يعانى من قصور شديد ويساهم إلى حد كبير فى عجز الموازنة السنوى. لكن معظم هذه الإصلاحات ستقوض على الأرجح مصالح السياسيين والأحزاب الذين برهنوا حتى الآن أنهم غير مستعدين لتحمل تبعات هذه الإصلاحات. وقد تؤدى الكلفة السياسية المترتبة عن إجراءات التقشف الضرورية إلى فقدان هذه الأحزاب الدعم الذى تحظى به فى صفوف زبائنها السياسيين.
لذا، لم تكن مقاربة الحكومة للأزمة متسقة، ما أفرز نتيجتين: أولا، اضطر لبنان فى ظل الركود الشديد الذى يمر به وشح الدولار إلى التكيف مع تراجع الواردات، فى حين أن الضغوط على المالية العامة تسببت بخفوضات حادة فى الإنفاق (ماعدا الإنفاق الأساسي). ويشهد الاقتصاد انكماشا قويا يتراوح من 10 إلى 15 فى المئة بحسب بعض الخبراء، ما يوازى معدلات الولايات المتحدة خلال الركود الكبير. ثانيا، أدى التدهور الشديد فى قيمة الليرة اللبنانية، فى ظل الاعتماد الكبير للبنان على الواردات، إلى ارتفاع التضخم، فتآكل الدخل الحقيقى للبنانيين بشكل سريع.
كانت لهذه الصدمة المزدوجة عواقب اجتماعية هائلة ووخيمة، قد تسفر عن تداعيات وجودية تلقى بظلالها على البلاد. فالدمار الذى لحق بالثروات كارثى، فى ظل تحول الطبقة الوسطى إلى طبقة فقيرة؛ فما يزيد عن 1,6 مليون لبنانى باتوا عاجزين عن تأمين احتياجاتهم الأساسية. فى غضون ذلك، تسجل البطالة مستويات مرتفعة جدا، إذ يُقدَر أن نحو مئتى ألف شخص فقدوا وظائفهم قبل الإغلاق التام الذى فرضه تفشى فيروس كورونا. ولاشك فى أن العدد الأكبر هو فى صفوف الشباب.
فى هذا الإطار، عمد السياسيون والأحزاب السياسية إلى استخدام الأزمتَين المالية والصحية لتسجيل النقاط واستعادة بعض الشعبية. تراهم فى موقف دفاعى يصارعون من أجل البقاء، باحثين عن أكباش فداء لحرف الأنظار عنهم. ففى الأسبوع الماضى، حاولت الحكومة وداعموها ــ على رأسهم التيار الوطنى الحر وحزب الله ــ تحميل حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، مسئولية الأزمة، سعيا لإقالته من منصبه واستبداله بشخصية من اختيارهم. لكن أشارت التقارير إلى أن الولايات المتحدة وفرنسا حذرتا المسئولين اللبنانيين، من خلال سفرائهما فى بيروت، من أن إقالة سلامة ليست فكرة سديدة فى المرحلة الراهنة. يِشار إلى أن إقالة سلامة هى من بين أهداف بعض المتظاهرين الذين يلومونه على تمرير سياسات أوصلت لبنان إلى هذه الحالة.
***
تضيع المصالح الأوسع للشعب اللبنانى الذى يرى بلاده تنهار أمام عينيه وسط هذه الضوضاء. وقد تجلى السلوك المأجور للطبقة السياسية بوضوح أكبر فى القرار الذى اتخذته الحكومة، فى خضم أزمة فيروس كورونا، بإقرار منظومة جديدة ترمى إلى مساعدة السكان الأكثر فقرا، بدلا من استخدام برنامج البنك الدولى الوطنى لمكافحة الفقر الوطنى، الذى ربطته الحكومة الراهنة بالحكومات السابقة. وتحتاج المنظومة الجديدة إلى وقت لإنشائها، لكن الفقراء فى لبنان لا يملكون ترف الوقت، ناهيك عن أنها تفتح الباب واسعا أمام المحاباة والممارسات التعسفية.
فى غضون ذلك، تعتمد الأحزاب السياسية تدابير محلية لتلبية حاجات ناخبيها، ما يُفاقم احتمالات التقسيم وربما حتى النزاع. لقد أعلن جميع السياسيين أو الأحزاب عن خطط لمكافحة تفشى فيروس كورونا، بما فى ذلك إنشاء مراكز حجر، ونشر طواقم طبية وفرق تعقيم، وتقديم معونات غذائية للمعوزين. وقد عمد كل حزب، بالتنسيق مع البلديات داخل مناطق نفوذه، إلى إنشاء مراكز عزل لاستقبال مرضى كورونا الذين لا يملكون الإمكانات اللازمة لعزل أنفسهم فى المنزل. وبذل حزب الله الجهد الأكبر فى هذا الإطار، من خلال إنشاء تسعة عشر مركزا للعزل، وتنظيم جولات لممثلين عن وسائل إعلام دولية ومحلية لاطلاعهم على جهوده.
ولكن هذه الإجراءات لن تكون كافية. فعلى الرغم من انتشار فيروس كورونا، نزل اللبنانيون إلى الشارع من جديد احتجاجا على التراجع الكارثى فى مصادر رزقهم. يعانى الناس من الجوع، وتتخذ بعض الاحتجاجات منحى عنيفا مع هجوم متظاهرين على المصارف التى باتت هدفا أساسيا لغضبهم. ويوحى سلوكهم هذا ضمنا بأن الرأى العام لا يتوقع من السياسيين معالجة الأسباب الجذرية للأزمة المالية فى البلاد. غالب الظن أن ما يواجهه لبنان اليوم سوف يستمر لسنوات، وآفاق التعافى ضئيلة.
سوف تكون التداعيات الأمنية للاضطرابات الاجتماعية كبيرة، ومن الصعب تقييمها الآن. وسيعانى لبنان مشقات متزايدة، وسيشهد على الأرجح هجرة جميع الأشخاص القادرين على إيجاد عمل فى الخارج. وفيما يشهر مزيد من الشركات إفلاسه، سينزل عدد أكبر من اللبنانيين إلى الشارع، ولا سيما الشباب الذين باتوا يفقدون الأمل فى العثور على عمل أو بناء مستقبل فى بلادهم. وفى ظل تناقص موارد الأفرقاء السياسيين، قد يشكل هذا الأمر فراغا يمكن أن تستغله الجهات الساعية إلى الإفادة من غياب الاستقرار.
كى يتجنب لبنان الانفجار، على السياسيين والأحزاب الإقرار بأن عليهم الحفاظ على البلد لحفظ أنفسهم. ويستوجب ذلك القبول بإجراء الإصلاحات الضرورية. هذه مهمة شاقة على الأرجح، لكنها خطوة أولى ضرورية لتجنب الانزلاق نحو النزاع. وعلى السياسيين أيضا أن يسمحوا بتشكيل حكومة من المستقلين مهمتها التفاوض على خطة إنقاذ مالية واقتصادية للبنان، والإشراف على انتخابات مبكرة. فخطة الإنقاذ أساسية لتحقيق الاستقرار الاجتماعى، والانتخابات المبكرة ضرورية أيضا لاستعادة الشرعية وتجديد الحياة السياسية. وفى غياب ذلك، سيواصل لبنان الانزلاق نحو الفوضى، وربما حتى أسوأ من ذلك.

النص الأصلي

التعليقات