نشرت مدونة ديوان الصادرة عن مركز كارنيجى للشرق الأوسط مقالا للكاتب «بيرى كاماك» يتناول فيه خطوات ترامب فى طريق صعوده السياسى ومواقفه غير المتوقعة، ويطرح الكاتب تساؤلا عن إمكانية نجاح تلك الخطوات ــ غير المتوقع ــ ولكن هذا الاحتمال قائم، مثلما كان انتخاب ترامب رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية غير متوقع.
يستهل الكاتب حديثه بأنه لم تُقدَّم بعد أدلة مباشرة تُثبت أن موسكو تملك معلومات محرجة وفاضحة عن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وأنه تواطأ مع روسيا خلال الحملة الرئاسية الأمريكية فى العام 2016. لكن بعدما وقف ترامب إلى جانب الرئيس الروسى فلاديمير بوتين فى هلسنكى، وألقى باللائمة على بلاده فى الهجوم السيبرانى الروسى على الولايات المتحدة، لم يعد ممكنا إسقاط هذا الاحتمال من الحسابات.
أما البديل، أن شعور ترامب غير المفهوم بعدم الأمان ورغبته النرجسية فى إبرام الصفقات هما ما سمحا له بتقديم المصالح الروسية على المصالح الأمريكية، فبالكاد يمنح شعورا أكبر بالارتياح. وأيا تكن دوافع ترامب فلن تنتهى القصة، ولا الأضرار المحتملة فى هلسنكى.
بعد ثمانية عشر شهرا فى سدة الرئاسة، بدأت مقاربة ترامب للسياسة الخارجية تتضح للعيان. فقد استثمر فى قادة مثل بوتين، والرئيس الصينى شى جى بينج، والزعيم الكورى الشمالى كيم جونج أون، ورئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو، وولى العهد السعودى محمد بن سلمان. صحيحٌ أن الدبلوماسية الرئاسية تجد ما يُبررها فى كل واحدة من الحالات، إلا أن ترامب لا يسعى خلف المجهود الدبلوماسى التدريجى. فالمفاوِض الأكبر فى العالم يريد صفقات، وأى صفقة أفضل من عدم التوصل إلى صفقات على الإطلاق.
***
ماذا لو أن مبادرة من النوع الذى يتفرد به ترامب ــ كصفقة كبرى مع روسيا، اتفاق نووى مع كوريا الشمالية، صفقة تجارية مع الصين، اتفاق سلام فى الشرق الأوسط ــ تكللت فعلا بالنجاح؟ ثمة أسبابٌ عدة للاعتقاد بأن النجاح ليس متعذِّرا.
أولا: لقد جرى التقليل من شأن ترامب فى كل خطوة من خطوات صعوده السياسى الصاروخى. لنتوقف عند تقييم نايت سيلفر ــ أشهر المتوقعين السياسيين فى أمريكا ــ فى أغسطس 2015، الذى اعتبر فيه أن لدى ترامب حظوظا بنسبة 2 فى المائة للفوز بترشيح الحزب الجمهورى (فما بالكم بإلحاق الهزيمة بهيلارى كلينتون). كذلك تعرضت مساعى ترامب المتعلقة بالسياسة الخارجية ــ بدءا من هجماته على حلف شمال الأطلسى (الناتو) و(الاتحاد الأوروبى)، مرورا بالاجتماعين اللذين عقدهما مع كلٍ من بوتين وكيم، ووصولا إلى جهوده على الجبهة الإسرائيلية / الفلسطينية ــ لانتقادات شديدة من المعلقين، ومنهم كاتب هذه السطور، معتبرين أن مصيرها المؤكد هو الفشل. لقد حان الوقت للإقرار بأن سلوك ترامب غير مسبوق وغير قابل للتوقع إلى درجة أننا نفتقر إلى القدرة على تقييم نتائجه.
ثانيا: يعتبر ترامب أن جوهر أفعاله غير مهم مقارنة مع وقع هذه الأفعال على قاعدته الشعبوية. فهو مستعد للقيام بأى شىء تقريبا من أجل الهيمنة على الدورة الإخبارية. بيد أن مسائل السياسة الخارجية التى يخوض فيها ــ مثل البرنامج النووى الإيرانى والبرنامج النووى الكورى الشمالى، والحرب فى سوريا، والعلاقات مع الصين وروسيا ــ معقدة، ومتعددة الأوجه، وتتطلب إدارة ثابتة الخطى تشق طريقها بجهد وتَرَوٍّ، من النوع الذى يزدريه ترامب.
ثالثا: ترامب مسكون بهاجس التجارة (والهجرة) أكثر من أى شىء آخر. لكن، نظرا إلى حجم الاقتصاد الأمريكى، تُعد التجارة أقل أهمية لأمريكا مما هى عليه بالنسبة إلى أى بلد آخر فى العالم تقريبا. فعلى سبيل المثال، تبلغ حصة التجارة من إجمالى الناتج المحلى 37 فى المائة فى الصين و84 فى المائة فى أوروبا، إنما 26 فى المائة فقط فى الولايات المتحدة. مع ذلك، يتحدث ترامب عن التجارة، والإجحاف فى الترتيبات التجارية الأمريكية، أكثر من أى قائد أمريكى آخر فى الذاكرة، ومن أىٍّ من نظرائه المحتملين.
رابعا: ينظر دونالد ترامب بازدراء إلى المصالح القومية الأمريكية التقليدية. فهو رئيس مفتون بالسلطوية، ويعتبر أن معظم الالتزامات الاقتصادية والأمنية الأمريكية التقليدية لا تُحتمَل. يُضاف إلى ذلك أنه لا يثق ــ غريزيا ــ فى تعدد الأطراف. صحيحٌ أن أسلافه غالبا ما أُصيبوا بالإحباط بسبب تعدد المصالح العالمية المتقاطعة للولايات المتحدة، وكان هناك اختلافٌ فيما بينهم حيال طريقة ترتيبها ضمن الأولويات ودعمها، إلا أنهم أدركوا أهميتها.
يبدو أن ترامب يتعامل مع السياسة الخارجية بالطريقة نفسها التى يتعامل بها مع السوق العقارية فى منهاتن. فهو ــ لتمويل إفلاساته ــ يستفيد من المال الموروث والقروض والمتاجرة بالأصول. لقد ورث الحلف عبر الأطلسى، والشراكات الأمنية، والمؤسسات التجارية، والسيادة على الأراضى، والوجود العسكرى الأمريكى حول العالم، والالتزامات المنصوص عليها فى المعاهدات. لكن إذا لم يكن ترامب وفيا لسبعين عاما من المكتسبات المتراكمة على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية، فهو لن يتورع عن المتاجرة بها أو التخلى عنها.
إذا أضفنا كل تلك المكونات إلى بعضها البعض، فسوف نحصل على مزيج قابل للاشتعال. لكن بالنسبة إلى خصوم أمريكا (وأصدقائها فى الشرق الأوسط)، يمكن أن تقدم إمكانية قيامها بمقايضة مصالحها الاستراتيجية باتفاقات سياسية قصيرة المدى، فرصة العمر. كيف يمكن أن تبدو هذه المقاربة فى الواقع العملى؟ لنتوقف عند النقاط الآتية:
سوريا: لقد تبين أن سورية عصية على التسوية السياسية بسبب وكر الدبابير المتمثل فى الأولويات الإقليمية المتضاربة هناك. لكن لنتخيل أن الولايات المتحدة لا تعترض على التوصل إلى تسوية مع الرئيس السورى بشار الأسد، وأنها قادرة أن تغض الطرف عن المصالح الأردنية وحتى الإسرائيلية. فى هذه الحالة، قد تبرز ملامح صفقة روسية ــ أمريكية، تتم بموجبها (مؤقتا) مقايضة الوجود الإيرانى على مقربة من الحدود الإسرائيلية بسحب القوات الأمريكية (بصورة دائمة) من شرق البلاد.
أوروبا: يراوح النزاع الأوكرانى مكانه منذ أعوام عدة. لكن لو كان الاعتراف الأمريكى بضم روسيا غير القانونى للقرم أو الوضعية العسكرية الأمريكية فى أوروبا مطروحَين على طاولة البحث، لأمكن تخيل مجموعة هائلة من الترتيبات الأمريكية ــ الروسية المحتملة. وإذا صدق ترامب كلام بوتين بأنه لم يتدخل فى الانتخابات الأمريكية، فما الذى يمنعه من السعى إلى إبرام صفقة من شأنها أن تُكرس هذه الضمانات؟
الصين: تُقدِّم تهديدات ترامب أخيرا بخوض حرب تجارية مع الصين دليلا واضحا جدا على سعيه للتوصل إلى صفقة. حصلت المبادرة التى تحمل بصمة شى جين بينج الخاصة، والمعروفة بـ«مبادرة الحزام والطريق»، على زخم كبير بفعل انسحاب ترامب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ. غير أن الدعم الأمريكى لحرية الملاحة الدولية كبحَ إلى حد كبير طموحات بيجينج فى بحر الصين الجنوبى. فهل يمكن أن تستشف بيجينج فرصة لمقايضة التنازلات التجارية المؤقتة (مثل خفض قيمة العملة أو شراء سلع أمريكية لخفض العجز التجارى) بتنازلات استراتيجية أمريكية فى بحر الصين الجنوبى أو «مبادرة الحزام والطريق»؟
كوريا الشمالية: يبدو أن احتمال قيام ترامب بمغامرة فى كوريا الشمالية ــ وفقا لقواعد اللعبة المعهودة ــ متدنٍ إلى حد كبير على ضوء حصص الولايات المتحدة فى المنطقة ونفوذها المحدود. لقد سبق أن تخلى ترامب عن التدريبات العسكرية الأمريكية مع الجيش الكورى الجنوبى من دون الحصول على أى شىء فى المقابل، ومنح كيم شرعية على الساحة العالمية. فهل ثمة ما يمنعه من التفكير فى التخلى عن الالتزامات الأمنية الأمريكية فى شرق آسيا من أجل التوصل إلى صفقة مع كوريا الشمالية والصين؟
الصراع فى الشرق الأوسط: ثمة إجماعٌ شبه كونى بأن من المستحيل إحراز تقدم نحو التوصل إلى تسوية إسرائيلية ــ فلسطينية نهائية. غير أن ترامب يبدو متلهفا لإزالة الفلسطينيين تماما من المشهد. فهل ثمة ما يمنعه إذا من استخدام التقارب الناشئ بين إسرائيل والسعودية، وتوليفه فى إطار اتفاق سلام عربى ــ إسرائيلى أوسع نطاقا؟
***
وختاما يضيف الكاتب قائلا: «لنكن واضحين، كلٌ من هذه السيناريوهات عبثى وقائم على التكهنات، ومن شأنه أن يكون منبوذا من إدارة أمريكية تنهض بمهامها كما يجب. لذا، لن يسلك أىٌّ منه ــ على الأرجح ــ طريقه إلى التنفيذ. لكن مجددا، ارفعوا يدكم إن توقعتم فعلا انتخاب دونالد ترامب رئيسا لأمريكا».
النص الأصلي
الاقتباس
ينظر دونالد ترامب بازدراء إلى المصالح القومية الأمريكية التقليدية. فهو رئيس مفتون بالسلطوية، ويعتبر أن معظم الالتزامات الاقتصادية والأمنية الأمريكية التقليدية لا تُحتمَل. يُضاف إلى ذلك أنه لا يثق ــ غريزيا ــ بتعدد الأطراف.