نهاية حزينة - من الفضاء الإلكتروني «مدونات» - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 1:33 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نهاية حزينة

نشر فى : الأربعاء 31 مايو 2017 - 9:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 31 مايو 2017 - 9:10 م
نشرت جريدة المستقبل اللبنانية مقالا للكاتبة جومانة نمور قالت فيه: تواترت إلى ذهنى مشاهد من طفولة سحيقة كنا نتوجه فيها إلى محل «السمانة» حيث كل الاحتياجات الضرورية اليومية البسيطة، وزاوية مخصصة لبيع الصحف. وكان البائع ــ الجار، يُسلمنا غذاء العقل والمعرفة المتمثل فى بضع صفحات ورقية لا علاقة لجودتها بطبيعة الورق، مع ابتسامة عريضة ويحمّلنا سلاما إلى الأهل. نظرة تعجب من البائعة الشابة، وتساؤل من زميلها على الصندوق، أعادتنى إلى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين: هل تريدين وضع إعلان ما أم تبحثين عن شقة؟
عفوا؟ لم أفهم، تمتمت مرتبكة. كنت ما زلت تحت تأثير صدمة دخولى إلى إحدى مكتبات بيروت حيث تعودت أن أشترى جريدة، لأجد ألواحا من الشوكولاتة وقد حلت محل المكان المخصص لها، بعد قرار اتُخذ بالاستغناء عن بيعها. أعلم أن نسبة قراء الصحف الورقية تراجعت بشكل هائل، وأن الأكشاك التى كانت تزين أرصفة وساحات لم يعد لها مكان، وأن المنتجات الخالية من الدسم أخذت مكان صفحات دسمة فى محال السمانة، لكن أن تختفى الصحف بين ليلة وضحاها، حتى من المكتبة، أمر لم أتمكن من استيعابه من الوهلة الأولى.
شرح الشاب قصده بعدما رآنى متسمرة مكانى أفكر بصوت عالٍ كيف يعقل أن أكون بمكتبة خالية من الصحف، أين أذهب الآن؟ «لا بد أنك تبحثين عن الوسيط، لأنى أرى أنك مهتمة جدا بالحصول على نسخة اليوم، هل تودين مساعدة فى هذا الإطار؟» لا شكرا لك، أجبته وأنا ألملم خيبة أضحت مضاعفة بعد السؤال. لن أُتعب نفسى بمزيد من البحث، فالصحيفة نفسها وغيرها الكثير، على بُعد كبسة زر، تنتظرنى عبر شاشة صغيرة أضحت منذ زمن نافذتى على أبرز الصحف العالمية لحظة صدورها، إلى جانب التواصل وتبادل المعلومات ومشاركتها.
حثثت الخطى، لأجد نفسى خلف رجل مسن تعودت أن أراه أحيانا جالسا على قهوة رصيف قريبة. تباطأت خلفه، وأنا أنظر إلى شريط سماعة متدلٍ من أذنه اليسرى، وعصا يحملها فى اليمنى محاولا عدم استخدامها إلا فى حالة انعدام التوازن، ولاحظت العنصر المفقود من تحت أبطه. هو أيضا لم يتمكن من الحصول على جريدة اليوم. لقد خسر المسكين رفاقا كانوا يجالسونه واحدا بعد الآخر، بعض الكراسى التى أضحت فارغة فى القهوة العتيقة شاهدة على ذلك، وها هو الآن يخسر رفيقة عمر جديدة. قدماه المتعبتان من كد السنين قد لا تساعدانه فى البحث عن مصدر آخر.
تذكرت جوتنبرج واختراعه للمطبعة أواسط القرن الخامس عشر. ذاك الاختراع شكل بداية ثورة ساهمت فى نقل أوروبا والعالم من العصور الوسطى إلى عصر النهضة. وبعد الثورة الصناعية، لعبت مكنة الطباعة دورا هائلا فى تطور البشرية عندما أضحت المعرفة متاحة لشرائح أكبر من الناس، بورجوازيين وعمال. نهل المعارف وانتشار الكتب أسهم فى رفع مستوى الوعى. وازدهار الصحافة المطبوعة، قلب الرأى العام، وجعله عاملا مؤثرا بشكل جذرى فى مسار تقدم البشرية وثوراتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وفى تطور طرائق عيشها.
منذ ذلك الوقت، شكلت الصحف جزءا مهما من حياتنا اليومية لعقود. فهى لم تقتصر على كونها وسيلة لمعرفة ما يجرى فى العالم، بل شكلت رافدا أساسيا فى تشكيل الرأى العام والوعى والإدراك والثقافة. صحيح أن العديد منا لن يفتقد غياب نسخها الورقية، فالحصول على المعلومة والمقال سهل جدا من خلال الشبكة العنكبوتية، لا بل إنه متيسر أكثر من السابق، وقد تكون الصعوبة فى اختيار الأفضل والأكثر مصداقية بين الكم الهائل المتوافر. ولكن ماذا عن علاقة ثقة وود ووعى وطريقة عيش تركت حبرها على تجاعيد أجيال كاملة؟. ماذا عن خشية من قفزة جديدة قامت بها البشرية رمتها هذه المرة فى براثن تكنولوجيا لم يتبين خيطها الأبيض من الأسود بعد. فإذا كان المسار من الكتابة على ورق البردى والجلود، إلى الطباعة الحديثة قد أخذ قرونا من الزمن، وغيّر حياة البشر على مراحل ودفعات، نعيش اليوم فى عالم يثب فى غياهب المستقبل بسرعة جنونية. ومن السباحة فى بحور المطبوعات، إلى محيط تتلاطم فيه أمواج المعلومات والتحليلات، مع إمكانية الحصول عليها وتبادلها فى لحظات قليلة. كل ما هو موجود معروض، وكله متوافر للجميع صغارا وشبانا وكبارا، وفى أى لغة تخطر على بال. كل ذلك من دون قوانين أو رقابة أو ضوابط.
أفكار حولت خيبتى إلى قلق وأنا أتجاوز الرجل المسن، مسرعة إلى عالم رقمى ينتظرنى فيه بحر المعلومات والتحليلات ومهمة البحث عما يهمنى ويفيدنى فيه. أما هو، صديقى المُسّن، فأتخيل أنه سينفث خيبته مع دخان نرجيلة تنتظره عند الرصيف، وسيكتفى اليوم بنشرة أخبار عن تكثيف للمشاورات بهدف التوصل إلى اتفاق، وإحصاء عن عدد ضحايا حروب ونزاعات، وبضع متفرقات يعتمد وضوح الحصول عليها على سماعة يقتصر تحكمه فيها على مستوى الصوت.
أصل إلى شاشتى، أحاول التركيز على ما أقرأ، ودماغى مشدوه بالتقنيات الموجودة أمامى. يا له من اختراع، البشرية بعده لن تكون أبدا كما قبله. كما غيرت الصناعة مسار التاريخ، ها نحن نشهد بأم العين ثورة المعلومات والاتصالات وهى تقلب الموازين، وتشكل منعطفا تاريخيا جديدا يتجه نحو الانقطاع مع ما قبله، مخلفا وراءه الكثير. الجريدة كما عرفناها، تحاول مجاراة ذلك، لكن المنعطف خطير والرياح عاتية وهى من ورق.

 

التعليقات