توسعت الدولة خلال السنوات الماضية فى برامج الحماية الاجتماعية والتى تستهدف الأسر الأكثر فقرا فى مصر حيث كان الغرض من هذا التوسع هو الحد من حدة الفقر وامتصاص الآثار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن حزمة الإصلاحات المالية والنقدية التى تسببت فى ارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات الأساسية، والتى عانى منها الفقراء بصورة أكبر.
يعد برنامج «تكافل وكرامة» هو الأبرز بين تلك البرامج حيث خصصت له الدولة خلال السنوات العشر الماضية ما يقرب من 70 مليار جنيه وفقا لتصريحات رئيس الحملة الانتخابية للسيد الرئيس إبان فترة ترشحه. ويندرج مشروع تكافل تحت تصنيف التحويلات النقدية المشروطة والتى بدأت فكرتها فى البرازيل والمكسيك فى تسعينيات القرن الماضى والتى تقوم فلسفتها على كسر دائرة الفقر والقضاء على توريثه بين الأجيال عن طريق تشجيع الأسر الأكثر فقرا على الاستثمار فى رأس المال البشرى، وتحديدا الصحة والتعليم باعتبارهما المسببين الرئيسيين للفقر والعنصرين الأبرز فى القضاء عليه. ووفقا لهذه النوعية من البرامج تقدم الدولة دعما نقديا شهريا للأسرة وغالبا ما تكون الأسر التى تعيلها سيدة فى مقابل الالتزام ببعض الشروط من بينها؛ حضور الأطفال لنسبة معينة من الأيام الدراسية، والحصول على التطعيمات الأساسية، وزيارة الوحدات الصحية بشكل منتظم لمتابعة صحة ونمو الأطفال الصغار، وأحيانا ما يتم أيضا إلزام السيدات بحضور جلسات توعية خاصة بتغذية الأطفال وتقديم الرعاية الصحية لهم.
بدأت مصر تنفيذ برنامج «تكافل وكرامة» فى عام 2015 بتمويل ضخم من البنك الدولى وسط توقعات بأن يساهم بشكل فعال فى مشاكل الفقر الهيكلية المتمثلة فى ضعف الحالة التعليمية والصحية للأطفال فى الأسر الأكثر فقرا. وقد حقق البرنامج نجاحا كبيرا خلال السنوات الماضية فى الوصول لملايين الأسر الأولى بالرعاية فى مختلف محافظات مصر وشهد البنك الدولى وغيره من المؤسسات البحثية الدولية بنجاح وزارة التضامن الاجتماعى فى تنفيذ البرنامج بصورة جيدة سواء فيما يتعلق بالاستهداف السليم والاختيار الدقيق للحالات مستحقة الدعم، فضلا عن انتظام وسرعة التحويلات النقدية وكذلك زيادة مخصصات البرنامج دوريا لاستيعاب معدلات التضخم، بشكل أصبح معه برنامج «تكافل وكرامة» هو البرنامج الأكبر ضمن برامج الحماية الاجتماعية فى مصر.
• • •
غير أن تنفيذ الشروط الخاصة ببرنامج «تكافل وكرامة» ما زالت غير مطبقة وهو الأمر الذى يفقد البرنامج عنصرا أساسيا من عناصره، وتحول البرنامج بمرور الوقت إلى برنامج تحويلات نقدية غير مشروطة، وهذا لا يعنى أن البرنامج ليس ناجحا أو ليس ذا فائدة. فوفقا لدراسة قياس الأثر التى قام بها المعهد الدولى لسياسات بحوث الغذاء IFPRI، وهو مركز بحثى مستقل يعد من الأكبر على مستوى العالم فى تقييم أثر مشروعات الحماية الاجتماعية والأمن الغذائى، فإن برنامج «تكافل وكرامة» قد ساهم فى زيادة إنفاق الأسر على المصاريف التعليمية وتحسين جودة النظام الغذائى.
على الرغم من هذه النتائج الإيجابية يظل هناك عدد من الأسئلة الهامة المثيرة للاهتمام أولها هو لماذا تراجعت الحكومة عن تطبيق المشروطية فى البرنامج على الرغم من أنها تشكل الفلسفة الأساسية لتلك النوعية من البرامج؟ هل بسبب صعوبات فى التنسيق بين الوزارات المعنية (التضامن الاجتماعى والتعليم والصحة) وعدم ارتباط قواعد بيانات تلك الوزارات ببعضها البعض بما يحول دون متابعة التزام الأسر الحاصلة على الدعم بشروط الحضور المدرسى والمتابعة الصحية؟ أم أن تنفيذ المشروطية سيتطلب نفقات إدارية مرتفعة ترى الدولة توفيرها فى مقابل زيادة عدد الاشخاص المستفيدين من البرنامج؟ أم أن هناك عدم قناعة من جانب بعض المسئولين فى تلك الوزارات بجدوى وأهمية الالتزام بالشروط وتأثيرها على الفقر المستقبلى؟ أم أن الحكومة رأت أنه من الحكمة عدم تقييد الحصول على الدعم بشروط نظرا للظروف الاقتصادية الراهنة؟ والحقيقة أن كل الاحتمالات واردة وقد تكون منطقية ومبررة غير أن الإجابة على تلك الأسئلة مسألة ضرورية لتحديد مستقبل البرنامج الأهم فى شبكة الحماية الاجتماعية فى مصر.
فى جميع الأحوال تنبغى الإشارة إلى أن دراسات قياس أثر هذه النوعية من البرامج فى بعض الدول التى استطاعت إلزام الأسر المستفيدة بشروط الحضور المدرسى والاستثمار فى صحة أبنائهم وبناتهم وجدت أن البرنامج لا يؤدى بالضرورة إلى تحسن فى مخرجات التعليم والصحة للأطفال نظرا لأن الحضور المدرسى وحده ليس كفيلاً بتحسن المخرجات التعليمية للطلاب، نظرا لعوامل كثيرة من بينها تكدس الفصول المدرسية، ضعف المناهج، ضعف قدرات المعلمين والمعلمات وغيرها من الأسباب المتعلقة بجودة التعليم والتى تجعل من الحضور المدرسى وحده ليس ذا قيمة.
وفيما يتعلق بالحصول على التطعيمات الأساسية ومتابعة صحة الطفل أو الطفلة بالوحدات الصحية لم يختلف الأمر كثيرا فى العديد من البلدان لأسباب مشابهة من بينها فقر الخدمات الصحية المقدمة، وارتفاع أسعار الأدوية والمكملات الغذائية، واحتياج الأطفال للحصول على غذاء صحى وآمن لضمان نموهم الذهنى والجسدى السليم، وارتفاع تكلفة الحصول على غذاء صحى للأسر الأكثر فقرا.
وعليه، فإن عدم تطبيق المشروطية فى مصر ليس من الضرورى أنه أضعف من مخرجات ونتائج برنامج «تكافل وكرامة»، بل قد يكون وفر على الدولة ميزانية إدارية ضخمة كان من الأفضل توجيهها لزيادة مبلغ الدعم أو زيادة عدد الأشخاص المستفيدين، ولكن تظل كل هذه الاستنتاجات نظرية وغير مؤكدة طالما لم تخضع لدراسات عملية تجريبية تثبت لصانع القرار جدوى تنفيذ الشروط من عدمه، وبناء عليها يتم اتخاذ قرارات مستندة إلى أدلة علمية تمكن صانع القرار من اتخاذ قرارات رشيدة.