شهدت الأيام الماضية عدة قرارات هامة تتعلق بسياسات الغذاء ودعم الغذاء وعلى وجه التحديد قرار الرئيس بمراجعة سعر الخبز المدعم وإنشاء مصنع سيلو فودز لإنتاج المنتجات الغذائية بالإضافة إلى تطوير الوجبات المدرسية بغرض القضاء على أمراض سوء التغذية لدى الأطفال بالمدارس. تلك القرارات تشير إلى أن القيادة السياسية تولى اهتماما لقضية الأمن الغذائى وأن الفترة القادمة قد تشهد مزيدا من القرارات والبرامج التى تستهدف دعم الأمن الغذائى فى مصر وهو ما يدعونا لإثارة واحدة من القضايا الهامة ذات الصلة وهى هدر الطعام.
تميز الأدبيات بين مصطلحين: فقد الطعام (Food Loss) وهدر الطعام (Food Waste)، يشير الأول إلى الغذاء الذى تم فقدانه فى سلسلة إنتاج الغذاء قبل وصوله للمرحلة النهائية للاستخدام ويحدث ذلك أثناء فترة الزراعة أو ما قبل الحصاد، أما الثانى فالمقصود منه هو الغذاء الذى يكون صالحا للاستهلاك الآدمى ولكن تم تلفه أو فساده قبل استخدامه بسبب سوء التخزين أو الحفظ أو تجاوز فترة صلاحيته. فهناك أطعمة بطبيعتها سريعة التلف مثل الخضراوات والفواكه ومنتجات الألبان واللحوم حيث لا تتجاوز فترة صلاحيتها سوى أيام معدودة وأحيانا بضع ساعات فى الظروف المناخية الحارة والرطبة إذا لم يتم حفظها وتخزينها بصورة سليمة أو تحويلها لشكل آخر يطيل فترة صلاحيتها مثل تجفيف الفاكهة أو عصرها.
•••
تشير التقديرات الدولية إلى فقد وهدر نحو ثلث الغذاء الذى يتم إنتاجه على مستوى العالم سنويا (ما يقرب من ١,٥ مليار طن من الغذاء)، تصل قيمته إلى نحو تريليون دولار أمريكى سنويا فى الوقت الذى شهد فيه العام الماضى معاناة ثلث سكان العالم تقريبا من انعدام الأمن الغذائى، وما يزيد على ٨٠٠ مليون فرد تعرضوا للجوع، بالإضافة إلى إصابة أكثر من خمس أطفال العالم دون الخامسة بأمراض سوء التغذية مثل التقزم والهزال وفقا لأحدث تقرير عن حالة الأمن الغذائى والتغذية حول العالم ٢٠٢٠ والصادر أخيرا عن عدد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة. غير أن قضية هدر الطعام ليست قضية إنسانية واجتماعية فحسب بل أن لها تداعيات اقتصادية وبيئية كبيرة أيضا، حيث تعتبر عبئا بيئيا يتمثل فى كونها نفايات صلبة يصعب التخلص منها بالإضافة إلى أن تعفن الطعام المهدر يتسبب فى زيادة معدلات غاز الميثان Methane الذى يعد أشد فتكا وخطرا على البيئة من غاز ثانى أكسد الكربون كونه يساهم فى ظاهرة الاحتباس الحرارى، فضلا عن أن الطعام المهدر يمثل كذلك هدرا لمياه الرى التى تم استخدامها فى الزراعة.
وعلى الرغم من عدم وجود بيانات وإحصاءات رسمية فى مصر عن حجم هدر الطعام وتقدير دقيق لآثاره البيئية والاقتصادية، إلا أنه بإمكاننا توقع أنه حجم هائل لن يقل عن المتوسط العالمى، حيث أن ظاهرة هدر الطعام غير مقصورة على دول بذاتها أو فئات اقتصادية أو اجتماعية بعينها، لذلك إن العادات والتقاليد تلعب دورا بارزا فى هدر الطعام فى مختلف الثقافات حيث يعد الإكثار من شراء الطعام وطهى كميات كبيرة منه خاصة فى العزائم والمناسبات المختلفة واحدا من العادات المتأصلة لدى كثير من الشعوب. كما تهدر المنشآت السياحية والفندقية والترفيهية والمطاعم وشركات الطيران كميات لا بأس بها من الطعام يوميا بسبب ارتفاع تكلفة إعادة تدوير الطعام المستهلك أو وجود قيود تحول دون التبرع بفائض الطعام.
•••
أتطلع أن تنتهز الأجهزة المعنية بالأمن الغذائى وبرامج الحماية الاجتماعية فى مصر فرصة توافر الإرادة السياسية وأن تشرع فى صياغة استراتيجية متكاملة لمكافحة هدر الغذاء تنبع رؤيتها من التعامل مع قضية هدر الطعام باعتبارها فرصة ومصدر للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بدلا من كونها عبئا وموردا مهدرا. تضمن تلك الاستراتيجية التعريف الدقيق للمشكلة وتحديد أسبابها ومدى انتشارها وآثارها الاقتصادية والشروع فى صياغة خطط ومشروعات وأنشطة وبرامج عمل مناسبة للتعامل معها مع دراسة الأطر التشريعية والتنظيمية القائمة لتفعيلها أو تعديلها إن لزم الأمر لتساهم فى تحقيق الأهداف المرجوة. وتعتبر الأنشطة التالية أحد أبرز ما تضمنته الاستراتيجيات الوطنية الخاصة بهدر الغذاء فى عدد من دول الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا:
ــ ضرورة جمع وتوفير البيانات الدقيقة عن حجم هدر الطعام وتقدير تكلفته الاقتصادية للتمكن من دراسة جدوى المشروعات والبرامج التى تقوم الدولة بتنفيذها وأيضا لقياس أثرها بعد التنفيذ.
ــ سن التشريعات المناسبة لتشجيع شركات المنتجات الغذائية والمحال التجارية على بيع المنتجات التى أوشك تاريخ صلاحيتها على الانتهاء بأسعار مخفضة أو التبرع بها للجهات المستحقة.
ــ اتخاذ إجراءات استباقية للحد من هدر الطعام بالمنازل عن طريق نشر الوعى وتثقيف المواطنين والمواطنات فيما يتعلق بنمط شراء السلع الغذائية وطرق حفظ وتخزين الطعام بما يطيل فترة صلاحيته ويحول دون فساده والتعريف بكيفية استخدام بواقى الطعام لإعداد وجبات جديدة.
ــ تدشين مشروعات وطنية لاستخدام فائض الطعام من المنازل والمطاعم والفنادق وغيرها لدعم الأمن الغذائى لدى الأسر الأكثر فقرا ووضع معايير واشتراطات للتبرع بالطعام تضمن سلامة الغذاء والحفاظ على صحة وكرامة وإنسانية المتبرع لهم، مع تشجيع المنظمات غير الحكومية على لعب دور فعال فى مجال التوعية وجمع التبرعات الغذائية وتوزيعها على الفئات المستحقة.
ــ إلزام المنشآت السياحية والمطاعم والفنادق بالتخلص الآمن من بواقى الطعام مع تقديم حوافز مادية ومعنوية ولوجستية للمنشآت التى تتبرع للفئات المستحقة مع توفير برامج تدريبية للعاملين بهذه المنشآت على قواعد فرز بواقى الطعام والتأكد من نظافتها وسلامتها وإعادة تعبئتها وتجهيزها للاستهلاك.
ــ تعديل قواعد واشتراطات تاريخ الصلاحية للتمييز بين المنتجات التى لا يجوز استهلاكها بعد تاريخ معين (use by) أو تفضيل استخدامها قبل تاريخ معين (best by) حيث إن الأولى هى المنتجات التى تسبب ضررا صحيا حالة تناولها بعد التاريخ المدون على العبوة أما الثانية فهى آمنة صحيا وإن فقدت مذاقها.
ــ الاستثمار فى تكنولوجيا صناعة الغذاء لإطالة أمد الصلاحية للسلع الأسرع تلفا وأيضا تكنولوجيا إعادة تدوير مخلفات الطعام وتحويلها لمخصبات زراعية.
•••
إن حشد الطاقات المؤسسية وتنسيق وتكثيف الجهود بين مختلف الشركاء للتركيز على قضية هدر الطعام تعد أحد مفاتيح دعم الأمن الغذائى لدى الأسر الفقيرة ومحاربة الفقر فى مصر خاصة وأن التعامل الفعال وحل مشكلات المجتمع بات مسئولية جميع الأطراف سواء الحكومة أو المجتمع المدنى أو القطاع الخاص.