على مدى سنوات طويلة تدهورت علاقة مصر بدول القارة الإفريقية وفقدت مصر تدريجيا نفوذها وقوتها الناعمة التى طالما ساهمت فى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية عديدة داخل القارة. عجزت أو أهملت الحكومات المصرية طوال الستين عام المنقضية متابعة وفهم وتحليل التغيرات الثقافية والاجتماعية التى ألمت بالمجتمعات الإفريقية والتى تبدلت خلالها عقلية وقناعات أشقائنا الأفارقة، واستمرت الحكومات المصرية السابقة فى إدارة ملف العلاقات الإفريقية بذات النهج والأسلوب القديم القائم على مبدأ «الشقيقة الكبرى» متناسية أن العقول والتوجهات والأوضاع قد تغيرت واحتياجات الدول الإفريقية تطورت. لم تنجح الإدارة المصرية فى صياغة رؤية متطورة لتحقيق مكاسب استراتيجية وسياسية واقتصادية على المستوى الإفريقى وكانت النتيجة الحتمية لسوء إدارة هذا الملف هو تردى العلاقات المصرية الإفريقية بشكل واضح على حساب شراكات وعلاقات استراتيجية أسستها دول أخرى غير إفريقية داخل القارة، وبالطبع أحد تجليات هذا الفشل كان شروع إثيوبيا فى بناء سد النهضة وتصميمها على استكمال بنائه وهو المشروع الذى تم التخطيط والإعداد له منذ سنوات طويلة على مرأى ومسمع الأنظمة السابقة التى استهانت واستكبرت على احتواء الطموح والتعنت الأثيوبى. وحيث أن مصر دولة متوسطة الدخل لا تقوى على توفير مساعدات مالية ضخمة للدول الإفريقية، اعتمدت الحكومات المصرية على أشكال تقليدية للدعم والتعاون مع الدول الأفريقية من بينها إيفاد خبراء فى مجالات معينة لبناء القدرات أو إرسال قوافل طبية ومساعدات عينية أوقات الأزمات والكوارث الطبيعية وكلها وإن كانت مفيدة بالطبع لكنها غير كافية ولا مؤثرة فى بناء علاقات متينة ومستدامة فضلا عن أنها أحيانا ما تترك انطباعات سلبية لدى الأشقاء الأفارقة.
***
غير أنه بات من الواضح أن هذا النهج بدأ يتغير تحت إدارة الرئيس السيسى الذى وقع على عاتقه حمل هذا الإرث الثقيل. فالمتابع لخطابات الرئيس وتصريحاته المتعلقة بالعلاقات المصرية الإفريقية ومن بينها موقف مصر من سد النهضة يجد أنها تسعى لتأسيس رؤية وفكر جديدين لإدارة مصر علاقاتها مع الدول الأفريقية. رؤية تستند إلى الاحتواء بدلا من الصدام والتحدى، والتفاهم والحوار بدلا من الاستعلاء والغطرسة، وتحقيق المصالح والمكاسب المشتركة بدلا من فرض الأمر الواقع والمكاسب الأحادية الجانب. العلاقة التى تسعى مصر لبنائها مع دول القارة تهدف إلى تجاوز الخلافات الشخصية والمشاحنات وترتقى لمستويات من التعاون الوثيق على جميع الأصعدة وعلى رأسها دعم الدول الأفريقية اقتصاديا واستثماريا لضمان تحقيق الاستقرار السياسى والأمنى وهو ما يؤمن ويضمن مصالح مصر الاستراتيجية والأمنية ويحول دون تحقيق دول معادية لمصر لمكاسب داخل عمق مصر الاستراتيجى. زيارة الرئيس الأخيرة للسودان وتصريحاته التى جاءت على هامش الزيارة تبرهن على رغبة القيادة السياسية فى تلافى أخطاء الماضى، وعلى مختلف الجهات الحكومية أن تبدأ فى صياغة رؤية جديدة تبلورها خطط وسياسات وبرامج من شأنها إحداث تغيير هيكلى فى التعامل مع دول القارة بحيث يكون الغرض الرئيسى منها تحقيق المصالح المشتركة استنادا لفهم احتياجات الدول الإفريقية وكيفية ممارسة مصر لدور محورى فى هذا الصدد.
المطلوب من الحكومة المصرية خلال هذه الفترة هو العمل على دعم الاستثمار والنمو الاقتصادى والتنمية الاقتصادية فى البلدان الإفريقية لضخ استثمارات حقيقية لها نتائج ملموسة على الأداء الاقتصادى والأوضاع الاجتماعية للشعوب الأفريقية سواء فيما يتعلق بزيادة موارد الاحتياطى النقدى الأجنبى وتسريع معدلات النمو الاقتصادى وخلق فرص العمل وتوفير احتياجات الشعوب المختلفة. وعندما نتحدث عن استثمارات مصرية فى السودان فالمقصود ليس استثمارات حكومية بل استثمارات من جانب القطاع الخاص والذى وإن كان هدفه الرئيسى هو الربح ولا يعنيه المكاسب السياسية إلا أن أنشطته تكون ذات نفع كبير للدول والمجتمعات التى يعمل بها. ولا تخضع قرارات القطاع الخاص بالاستثمار فى دولة أو مجال معين للعواطف أو الاعتبارات السياسية فالمستثمر لا يعنيه سوى وجود مناخ داعم للاستثمار ودرجة من الاستقرار السياسى لتقليل المخاطر بحيث يكون قادرا على الدخول والخروج من السوق بسهولة.
ويمكن للحكومة المصرية أن تلعب دورا هاما فى هذا الصدد عن طريق البحث عن الفرص الاستثمارية الواعدة والقطاعات الاقتصادية الريادية فى الدول الإفريقية ــ وعلى الأخص السودان نظرا لما تمثله من أهمية قصوى لمصر وأيضا نظرا للتقارب والتفاهم الكبيرين بين القيادة السياسية بالبلدينــ والترويج لتلك الفرص بين المستثمرين المصريين أو الشركات الأجنبية التى تتخذ من مصر مقرا إقليميا لأعمالها بحيث تستطيع توسيع أنشطتها بالسودان وغيرها من دول شرق أفريقيا وحوض النيل بأقل مخاطر ممكنة.
على الحكومة المصرية أيضا تقديم دعم لوجستى وسياسى للشركات الراغبة فى ضخ استثمارات القارة الإفريقية وتسهيل الحوار بينها وبين حكومات الدول الأفريقية مع ضرورة عقد حوارات ومشاورات متواصلة مع البلدان الأفريقية للتعرف على الأطر التشريعية والتنظيمية والإجرائية المنظمة للاستثمار الأجنبى فى جميع المجالات واقتراح المراجعات اللازمة لتطوير البنية التشريعية للاستثمار والتدخل لحل مشاكل المستثمرين المصريين عند الضرورة. كما تستطيع مصر أن تلعب دورا محوريا فى تعبئة الموارد المالية من المؤسسات المالية مثل البنك الدولى وبنك التنمية الأفريقى وغيرهما لتمويل مشروعات داخل السودان وغيرها مستفيدة من التمويلات الميسرة التى تقدمها تلك المؤسسات لمشروعات التعاون الثلاثى أو الجنوبــ جنوب والتى يكون أطرافها دول نامية.
***
إن الواقعية فى فهم التغيرات، والجدية فى إدراك التحديات والمخاطر، والانفتاح على مختلف الأفكار والتجارب، واحترام تطلعات وطموحات الشعوب هى الخطوة الأولى لتعديل الرؤية والفكر فى التعامل مع مختلف القضايا وهى الضمانة الحقيقية لتأسيس وترسيخ العلاقات والشراكات الناجحة بين الدول بما يحقق المكاسب المشتركة ويؤمن لمصر وضعا سياسيا واستراتيجيا متينا داخل القارة الإفريقية.