نشر المركز المصرى للفكر والدراسات الاستراتيجية مقالا للكاتبة نرمين سعد، تحدثت فيه عن أسباب عدم استخدام إيران نفوذها فى الأزمة السياسية العراقية الحالية.. نعرض من المقال ما يلى. تمتلك إيران نفوذا كبيرا داخل العراق، وقد اعتمدت فى مد نفوذها على شقين؛ أحد الشقين سياسى بحيث نجحت فى إيصال ساسة من الشيعة الذين يميلون كل الميل لإيران إلى رأس النظام السياسى فى العراق، ومن جهة أخرى لم تغفل الجانب العسكرى عن طريق جمع الميليشيات الشيعية تحت راية الحشد الشعبى إبان مواجهة تنظيم داعش الإرهابى فى العراق. وعلاوة على ذلك، لم تغفل إيران مسألة السيطرة الاقتصادية التى تخلق لها مواطن نفوذ سياسى.
ورغم تعدد أوجه الهيمنة الإيرانية فى العراق إلا أنها وخلال الأزمة السياسية الحالية تسعى للتحرك دون أى استعراض للقوى والنفوذ حتى وإن كان ذلك بشكل مؤقت ويمكن إرجاع ذلك لعدد من الأسباب:
أولا: علاقات طهران الإقليمية: تبنت إيران خلال الآونة الأخيرة استراتيجية جديدة لسياستها الخارجية تقوم على تحسين العلاقات مع دول الجوار، وهو أمر مدفوع بسببين: الأول طمأنة حلفاء الولايات المتحدة فى المنطقة وإيصال رسالة إلى الغرب بأنها نظام سياسى يمكن الوثوق به ومن ثم المضى قدما فى التوصل لاتفاق نووى، والثانى هو أنه مسار موازٍ للمفاوضات النووية بحيث تستفيد من تحسن العلاقات مع دول الجوار فى تعزيز التعاون السياسى والاقتصادى معها دون التوقف عند حدود الوصول إلى اتفاق نووى أو عدم التوصل إليه.
ثانيا: الاتفاق النووى: لا تريد طهران أن يتأثر سير المفاوضات بينها وبين القوى الكبرى بأى توترات يمكن أن تحدث فى العراق؛ وذلك لأن وصول الاحتجاجات إلى المنطقة الخضراء يؤدى إلى الإضرار بمصالح الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى. ذلك علاوة على أن انفلات الأمور فى بغداد سيؤثر بشكل كبير على أسعار الطاقة؛ كون العراق لاعبا أساسيا فى معادلة النفط العالمية، مما يضع هذه الدول وسط المزيد من الضغوطات أمام شعوبها، وقد يكون خيار إيقاف المفاوضات مطروحا خاصة أن الاتفاق لم يوقع بعد.
ثالثا: العقوبات الاقتصادية: ضمن سياسة الضغط الأقصى التى مارستها الولايات المتحدة على إيران فى فترة ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، تم تصفير صادرات النفط الإيرانية مما أنتج آثارا بالغة بشأن قدرة إيران على توفير الدعم المادى اللازم لوكلائها وأذرعها فى عدد من الدول. ولما كانت العقوبات مستمرة حتى الآن بفعل عدم العودة للاتفاق النووى، فإن إيران لا تزال تعانى من أزمة على الصعيد الاقتصادى؛ وتنبغى الإشارة هنا إلى أن الحرب الروسية ــ الأوكرانية قد حققت انفراجة اقتصادية لطهران نتيجة للعقوبات المفروضة على قطاع الطاقة الروسى وما يشكله النفط الإيرانى من بديل.
رابعا: إيران ومعضلة الأكراد: لا ترغب طهران فى أن تشعل صراعا «شيعى ــ شيعى» ومن ثم ترك الساحة خالية أمام الأكراد والسنة فتفوت على نفسها المكاسب السياسية التى استطاعت الحصول عليها بعد الغزو الأمريكى فى 2003. مع الأخذ بالحسبان هنا أن طهران ترى أن الأكراد جزء من الأزمة الحالية بسبب انقسامهم الداخلى وانحياز الحزب الديمقراطى الكردستانى إلى مقتدى الصدر على حساب الإطار التنسيقى. ولا يخفى كذلك أن إيران تنظر بعين الريبة لما تقول إنه تنسيق أمنى بين أربيل وتل أبيب. ولذلك قامت باعتداءاتها الصاروخية على مبنى قالت إنه كان تابعا للاستخبارات الإسرائيلية فى أربيل وبررت موقفها بأن الجمهورية الإسلامية لن تقبل أن تكون العراق مصدر تهديد لها.
خامسا: الخوف من التداعيات: تدرك إيران تمام الإدراك أن مقتدى الصدر يسيطر على الشارع العراقى وليس فقط على أتباع التيار الصدرى لأنه يروج لفكرة محاربة المحاصصة والفساد، وهو ما يمثل عامل ردع لإيران من التدخل المباشر؛ لأنها لو خسرت المعركة أمام الصدر فإن ذلك سيشكل الحلقة الأولى فى سلسلة حلقات انهيار نفوذها السياسى فى عدد من دول المنطقة، خصوصا بعد تراجع أسهمها فى الانتخابات اللبنانية الأخيرة.
سادسا: الاعتماد على الوكلاء: تعتمد طهران حتى الآن على وكيلها فى العراق متمثلا فى الإطار التنسيقى للخروج من الأزمة السياسية الحالية؛ ولذلك رفض نورى المالكى إقصاء البرلمان من الحل السياسى الحالى، وأكد أن الأمور لن تتم حلحلتها إلا عن طريق البرلمان، وفى تأكيد على أن لجوء الصدر للشارع لن يؤسس لعملية سياسية تخالف الدستور العراقى، وفى هذا السياق يسعى الإطار التنسيقى إلى تعديل قانون الانتخابات والمفوضية الانتخابية، وكذلك العودة إلى نظام العد اليدوى بدلا من النظام الإلكترونى الذى تم اعتماده فى الانتخابات الماضية، كما يستهدف تقليص عدد الدوائر الانتخابية ويلقى اللوم على القانون لضعف تمثيلهم فى البرلمان.
وفى هذا السياق فقد طرحت إيران عن طريق الإطار التنسيقى حلا يتمثل فى إما وصول الإطار التنسيقى إلى تشكيل حكومة أو العمل على شل العملية السياسية فى البلاد عن طريق آلية الثلث المعطل وهو ما حدث قبل انسحاب الصدر ونوابه من البرلمان، معتقدا أنه بذلك يحرج خصومه فى التنسيقى وأنهم سيهرولون للبحث عن حلول ولكن ما حدث أن الإطار استغل الأمر لصالحه عن طريق وضع المرشحين الشيعة الذين جاء ترتيبهم فى نتائج الانتخابات فى المرتبة الثانية مكان النواب المستقيلين، وبالتالى إقصاء الصدر من العملية السياسية الشرعية بعد أن رفض عرض إسماعيل قاآنى قائد فيلق القدس المشاركة فى حكومة ائتلافية. وتعول طهران فى اعتمادها على وكلائها على أن المكونات الأخرى داخل العراق لن تنجرف وراء دعوات الصدر لتغيير النظام السياسى؛ لأن الأكراد على سبيل المثال لا يريدون التخلى عن المكاسب التى حصلوا عليها بعد 2003 والتى تضمن لهم مقعد رئيس الجمهورية.
سابعا: الهواجس الإيرانية: تخشى إيران من أى انتخابات مبكرة ستؤدى إلى تراجع نفوذها فى البرلمان العراقى ولذلك فهى تؤيد الإطار التنسيقى فى عدم الذهاب لانتخابات مبكرة قبل وجود حكومة مؤقتة غير حكومة مصطفى الكاظمى التى ساهمت فى تغيير النتائج فى الانتخابات السابقة ــ حسب قناعتهم ــ وتخشى طهران بشكل خاص من حصول الأكراد على نفوذ أكبر فى الحياة السياسية العراقية وما يترتب على ذلك من تأثيرهم على قضية تصدير الغاز خارج البلاد بعيدا عن الحكومة المركزية فى بغداد.
• • •
بالنظر إلى مخرجات جلسة الحوار الوطنى التى دعا إليها رئيس الوزراء العراقى مصطفى الكاظمى، وحضرتها القوى السياسية فى غياب لحضور التيار الصدرى، يمكن فهم أن طبيعة الدور الإيرانى فى المرحلة السياسية المقبلة فى العراق لن تزيد على محاولات من النوع السياسى للخروج بنتائج تصب فى صالح وكلائها فى حال جرت انتخابات مبكرة، وفى هذا السياق فقد طرحت جلسة الحوار قبل أيام ولأول مرة بشكل رسمى سيناريو إجراء انتخابات مبكرة ولكنها علقت هذا السيناريو على أن يكون ضمن الإجراءات الدستورية فى الوقت الذى يطالب فيه التيار الصدرى بالتحضير لهذه الانتخابات دون إجراء أى تغيير بخصوص قانون الانتخابات ومفوضية الانتخابات وفى ظل وجود حكومة الكاظمى. خصوصا بعد قرار من مجلس القضاء العراقى بعدم الاختصاص فى حل البرلمان. وعلى الناحية الأخرى يتمسك الإطار التنسيقى بعدم إجراء انتخابات فى ظل وجود حكومة تصريف أعمال وهو ما يقره الدستور العراقى أيضا.
أكدت جلسة الحوار الوطنى أيضا على عدم جدوى إجراء أى انتخابات مبكرة فى حال عدم وجود توافق سياسى ــ وفى هذا إصرار من إيران والإطار التنسيقى على إشراك التيار الصدرى فى الحوار وهو ما رفضه السيد مقتدى الصدر بشكل مسبق حينما أصر على عدم المشاركة فى أى حكومة ائتلافية وأى حوار مباشر أو غير مباشر مع الإطار التنسيقى.
أخيرا، تضمنت مخرجات جلسة الحوار الوطنى مراوغة سياسية تلجأ إليها إيران بشكل متكرر فى تحريك الأمور داخل العراق، ففى الوقت الذى تضمنت فيه مخرجات جلسة الحوار موافقة ضمنية على إجراء انتخابات مبكرة إلا أنها موافقة معلقة على تطبيق الإجراءات الدستورية، ويمكن تفسير ذلك بأن قوى الإطار التنسيقى وإيران يدركون أن حل البرلمان والذهاب نحو الانتخابات المبكرة يعرض مكتسباتهم السياسية للزوال كون هذه القوى تواجه غضبا شعبيا مكتوما وتيارا عراقيا أصبح رافضا لربط مصالح العراق بمصالح أى أطراف إقليمية أو دولية. ومن هنا فإن إيران والإطار التنسيقى يسعيان من خلال الوسائل الناعمة والمراوغات لتوجيه إرادة الصدر نحو منحنيات سياسية آمنة تضمن لهم البقاء دون اللجوء للقوة.
النص الأصلى: